تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا كما أنه فى الذوات والأعيان، فكذلك هو فى الاعتقادات والإردات. فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع؛ فكما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرَّغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك الجوارح اذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها.

فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به؛ لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره. ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته.

فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق، والعلوم التي لا تنفع، لم يبقَ فيها موضع للشغل بالله، ومعرفة أسمائه، وصفاته، وأحكامه. وسر ذلك أن

إصغاء القلب كإصغاء الأذن؛ فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه

إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى

محبته. فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان.

ولهذا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأن يتملئ جوف أحدكم قيحاً يريه خير له من أن يمتلئ شعراً) فبيَّن أن الجوف يمتلئ بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشُبه والشكوك والخيالات، والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها.

وإذا امتلأ القلب بذلك، جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته، فلم تجد فيه فراغاً لها ولا قبولاً؛ فتعدته وجاوزته إلى محل سواه. كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه، فإنه لا يقبلها ولا تلج فيه، ولكن تمر مجتازة لا مستوطنة.

ويقول أيضا:

الحرز العاشر من الشيطان: إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس: فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة، فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان، وقوع صورة المنظور إليه في القلب والاشتغال به والفكر في الظفر به، فمبدأ الفتنة من فضول النظر كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غض بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالحوادث العظام إنما كلها من فضول النظر، فكل نظرة أعقبت حسرات لا حسرة.

كما قال الشاعر:

كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر

والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء، وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبواباً من الشر، كلها مداخل للشيطان؛ فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها، وكم من حرب جرتها كلمة واحدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم). وفي الترمذي أن رجلاً من الأنصار توفي فقال بعض الصحابة: طوبى له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فما يدريك فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه)، وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر، وهما أوسع مداخل الشيطان؛ فن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان، بخلاف شهوة البطن فإنه إذا امتلا لم يبق فيه إرادة للطعام، وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام؛ فجنايتهما متسعة الأطراف، كثيرة الشعب، عظيمة الآفات. وكان السلف يحذرون من فضول النظر، كما يحذرون من فضول الكلام، وكانوا يقولون: ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان.

وأما فضل الطعام فهو داعٍ إلى أنواع كثيرة من الشر؛ فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شراً؛ فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام، وكم من طاعة حال دونهما، فمن وقي شر بطنه فقد وقي شراً عظيماً، والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام، ولهذا جاء في بعض الآثار: ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن) ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إل أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل، وإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ومنّاه وشهّاه، وهام به في كل واحد، فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشبهات، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت.

مخالطة الناس: إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات، تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول؛ ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ...

فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم؛ وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة، واستعمل ما ذكرنا من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان فقد أخذ بنصيبه من التوفيق، وسد على نفسه أبواب جهنم، وفتح عليه أبواب الرحمة، وانغمر ظاهره وباطنه، ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء؛ فعند الممات يحمد القوم التقى و (عند الصباح يحمد القوم السرى) .. والله الموفق لا رب غيره، ولا إله سواه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير