سارت الأمور داخل العائلة دون أحداث تذكر. لكن المدينة لم تهدأ، تأججت بالمظاهرات تدعو إلى حكم وطني لا يأتمر بأمر فرنسا.
لم تتغير دورة الحياة. تابعت خطها بزخمها الفوار. هي الأقوى. نجح عادل بالبكالوريا قسم الرياضيات.
يلذ لعادل صيفاً أم شتاءً، ... عادة يومية .. أم يحمل كرسيه الخيزران ويتأبط كتابه ويجلس في رأس الحارة المشرفة على شوارع عده .. يقرأ ويتسلى بمراقبة الناس، وفي نيته المخبوءة أن يلمح فتاة أحلامه سميرة عائدة بباص الكلية يحمر وجهه، يغض الطرف إذ تمر مسرعة وتلقي التحية:
-مرحباً، عادل.
وتشاء الظروف السيئة أن تقع سميرة في غلطةٍ ترافقها مدى العمر. لمحها عادل مع شاب أسمر وسيم الطلعة في عربة يجرها حصانان. نزلت في مكان غير بعيد عن رؤياه قرب جادة الحواكير .. عادت منتشية لاهية تدندن نغماً شائعاً. لم يصدق عينيه، رفض الحقيقة. أحزنه ما رأى من فشل وتطلع نحو الغريب لم يتوقعه. طار صوابه دون وعي، لحق بالعربة. هجم على الشاب جره من نقرته تلوى الرجل بين يديه مباغتاً متملصاً. ركله عادل بقدمه على بطنه طرحه أرضاً. داس على رقبته وهو يصرخ:
-كلب حقير والله. لو رأيتك ثانية تُدردر ناحية الحارة لقلعت عينيك، لأعدمتك. والله أعدمك وأرميك مثل كلب في الشارع.
تجمع الناس. نفض عادل ثيابه، ونفض الغريب بنطاله. هرول أبو شاكر السمان، يتبعه جاره الحمصاني يوسف وهو يترنح من السكر:
-اتركه لي، دعه لي. أنا أربيه. يظن بنات الحارة داشرات. تبسم عادل، انتزع يوسف ضحكة من قلبه.
-شكراً يا يوسف، أنت قدها وقدود. ضحك الناس وتفرق الجمع. نفخ عادل الهواء ثقيلاً من رئتيه. مسح أنفه من الدم. أحس بأن ضلعاً سقط من صدره. تضخم الخبر في الحارة وبين الجيران وسعى البعض إلى توسيع الفجوة فبنوا سداً منيعاً لالقاء بعده. تنبهت سميرة من غفلتها. حاولت استرضاءه واستعطافه واغراءه. عبثاً، باءت محاولاتها بالفشل. وأخيراً جربت الرسائل. وقع بعضها في يد رفيقتها سها القاطنة الجدار بالجدار، الباب بالباب، فأوصلت الأخيرة الأمانة إلى غير أهلها، غير مبالية بالنتائج الخطيرة.
تمرغت سمعة البنت بالوحل، وحرمت من المدرسة فبقيت حبيسة الدار تنتظر العريس الذي لم يأت أبداً.
مدح أبي ابنه أمام الرجال:
-ابني زكرد، لاقواد، يجب أن يفهم الجميع.
منحته "الزكردية" ثقة على ثقة، أضحى الفكر المخطط والمنظم لشؤون البيت، وزعيم شباب الحارة. يحرض على الإضراب، ويدعو إلى المظاهرات ضد الفرنسيين، ويقود بعضها: بل ويكتب المنشورات.
التقي ليلى أخت سها "لطيفة ظريفة، نسير إلى المدرسة، نشتري كعك الدبس والتماري تتبعني كظلي. دعتني إلى بيتها كي نستظهر قصيدة: لبلابة قالت لنجم مرة يا طول صبرك. حددت أمي الوقت اللازم والمسموح به.
-نصف ساعة، فهمت يا سلمى، لا أريد مشاكل مع المجنونة سها هذه خبيثة. لا تتورع عن أية دسيسة.
-أعرف ماما.
تحاصر سها عادل تنقل أخباراً ملفقة عن سميرة. طورتها إلى دسائس سخيفة وحقيرة بمساحات تافهة. يتلبسها شيطان يأبى الهزيمة. صفعها عادل مرة على وجهها صفعة أنستها عمرها، صرخ في رأسها:
-إياك أن تقتربي مني. مجنونة مهسترة. قضيت على سميرة. والآن تبحثين عن ضحية أخرى. أحب رائحة الياسمين في بيت ليلى. دخلت وراءها وجلة. نقزت سها عندما وقعت عيناها علي، قامت من سريرها، ولطمتني على خدي انتقاماً من أخي، وعادت إلى اضطجاعها تنتظر ردة فعلي كي تكمل نهمها إلى الشر.
شدتني ليلى من يدي هامسة:
-لا تردي عليها، مجنونة. سأشكوها إلى أمي.
اندست مع سها تحت اللحاف .. خادمة ممصوصة بلهاء هبطت من الضيعة مع أبيها الفقير بحثاً عن الخبز. فجأة راحت تقبل سها من وجهها وفمها، وتداعب ثدييها.
صرخت بشدة:
-يا مجنونة، سأحكي لأمك.
اهتز السرير هزات متسارعة، ثم همد أخبرت أمي بما رأيت فضربتني على فمي.
-ما دخلك؟
تنسى الحارة همومها. تهب ودودة تمديداً حميمية فرحة لتحضيرات العرس للفتى البكر إبراهيم بن رفعت الحموي. يرفل إبراهيم ذو الوجه الناعم الأنثوي بالدلال في حضن والده صاحب المكتب العقاري لبيع أراضي الغوطة الشرقية.
¥