[قصة اليوم الأول]
ـ[الباحثة عن الحقيقة]ــــــــ[07 - 06 - 2009, 05:57 ص]ـ
اليوم الأول
استيقظت الأم صباحاً كعادتها لترسل أولادها إلى المدرسة فأطعمتهم وألبستهم،
قرأت المعوذات ليحميهم الله من شر الطريق وودعتهم، إنها تشعر أن اليوم
غير عادي.، فالريح خريفية باردة والغيوم تغطي السماء،وأسراب الطيور
المهاجرة تكاد تحجب نور الشمس، وعادت لتدخل غرفة أولادها وتجلس قرب
سرير نجمتها الصغيرة علا، ذات الأربع سنوات، ونظرت في وجهها
الملائكي الصغير، وقد أغمضت عينيها في سكينة وهدوء، وضمت كفيها
الصغيرين تحت ذقنها المستدير، وقد ارتسمت على شفتيها المطبقتين شبه
ابتسامة، فلا تدري وأنت تنظر إليها إن كانت تبتسم لك أم لفراشاتها وأزهارها
التي تلعب معها، وشعرت الأم أنها أمام أجمل لوحةٍ سماوية .. فسبحت الخلاق
العظيم .. وارتعش قلبها حباً وفاض حناناً فركعت أمام السرير على ركبتيها ..
وأخذت تداعب خصل شعرها المترامية على وجهها فتبعدها عن فمها وعينيها
وكأنها تزيح بعض الغيوم عن قرص الشمس فيزداد ضياءً ويشع نوراً ..
وأخذت تفكر، كيف ستبتعدين عني يا لؤلؤتي؟! وكيف سأقضي النهار
دونك؟! ولكن لا بأس، هذه هي الدنيا، فراق ولقاء، ترى هل ستجدين في
المدرسة من يحبك مثلي؟! ماذا لو وقعت؟ وماذا لو عطشت؟ وماذا لو .. وماذا
لو .. ؟ أوه، يبدو أنني أضخم الموضوع، إنها مجرد بضع ساعات وتعود لي
سالمة بإذن الله .. كما إنني عندما سجلتك قالوا لي: إن المعلمة ستكون أماً
حنوناً لك، لقد أوصيتهم بك كثيراً، وأنت .. أنت يا صغيرتي من رغبت بذلك،
لقد تملكتك الغيرة من إخوتك الذين يذهبون للمدرسة .. وأردت أن تذهبي مثلهم،
آه .. يبدو أن كل الفراخ الصغيرة عندما تكبر وتقوى أجنحتها تهجر أعشاشها،
لا بأس .. لقد آن الأوان .. وأرجو أن يحميك الله وأخذت تمسح شعرها،
فتحركت علا قليلاً .. وفتحت عينيها بتثاقل ودلال، فحملتها أمها وأجلستها في
حضنها وقبلتها فابتسمت علا .. ولفت ذراعيها حول عنق الأم، وكأنها تملك
الدنيا بين يديها، وخبأت رأسها الصغير في صدرها تملأ رئتيها بعبير الحنان ..
وأغمضت عينيها ثانية وهي تبتسم، فتحت الأم فمها لتوقظها .. فخنقتها
العبرات فرحاً وحزناً .. وشعرت بالكلمات ترتجف في حلقها، تشدها وتقول:
توقفي .. دعيها نائمة .. انظري ما أجملها .. دعيها مرتاحة دافئة في سريرها بين
أحضانك، ولكنها تذكرت أن عجلة الزمان تدور، ولا بد أن يأتي هذا اليوم
عاجلاً أم آجلاً .. وغداً ستكبر علا وتدرس وتتعلم لتصبح معلمة أو طبيبة أو
مهندسة تبني الوطن وتربي الأجيال .. ستكون عنصراً فعالاً في المجتمع، نعم
سأفخر بها وستفخر بنفسها، والمدرسة ستبني شخصيتها، إنها أول درجة في
طريق النجاح، كفاني أنانية سأوقظها، وابتلعت الأم غصتها، وتنفست الصعداء
بعمق وقالت: هل نسيت المدرسة يا صغيرتي؟ فانتبهت علا من غفوتها
اللذيذة .. وتذكرت، نعم، لقد أصبحت كبيرة مثل إخوتي .. واليوم هو موعد
ذهابي إلى المدرسة، فقفزت من السرير مسرعة، وأخذتها أمها تغسل وجهها
وتطعمها وتمشط شعرها .. وبعدما ارتدت ملابسها .. أمسكتها من يدها لتقف
معها قرب المنزل .. ريثما تأتي حافلة المدرسة .. كانت علا تقفز من الفرح
وتفرش الأرض تحت قدميها سعادة وغبطة .. وفي كل خطوة تزرع تحت
أقدامها زغاريد الطفولة، ليفوح منها عبق الأمل والعطاء .. وتشعر الأم
بالسعادة الغامرة لسعادة ابنتها تارة، وبحرقة في قلبها لفراقها تارة أخرى،
وبغصة تخنق الكلام أخذت تفكر .. كيف سأصبر حتى تعودين؟؟ كيف أسوي
فراشك؟؟ أو أتحرك في البيت؟ من سيشد ذيل ملابسي طوال النهار: أمي،
أريد أن آكل، أمي .. أريد أن ألعب .. أمي .. أمي ... لمن سأقول لبيك يا حلوتي ..
ومن سيشع الدفء في المنزل .. لقد ذهب إخوتك إلى المدرسة قبلك وبقيتِ
قربي .. تعلقت بك أكثر وأكثر .. كيف أنتظر عودتك لأتنشق عبيرك؟ أو أسمع
رنات ضحكاتك وتهدج بكائك؟ أو أراك تحومين حولي كالفراشة، وشعرت الأم
بقبضتها تشد على يد علا، وعضت على شفتيها وأدارت وجهها .. فصاحت
علا: أمي .. أمي .. إنك تؤلمينني .. والتفتت الأم فإذا بحافلة المدرسة تقترب
لتتوقف أمامهما ويفتح الباب، وتحمل الأم علا وتضمها إلى صدرها باسمة
مشجعة .. وقلبها يمنعها أن تتركها .. بل يتمنى لو تعود بها إلى المنزل، ولكنها
تنزلها وتعطيها محفظة الطعام وتضعها في الحافلة .. وتقول للمشرفة: هذه
محفظة علا .. فيها شطيرتها .. وفيها كأسها .. وأرجو أن تغلقوا نوافذ الحافلة
كيلا تبرد علا .. كما أرجو أن تجلسيها في الوسط كيلا تقع فهي كثيرة الحركة
.. وقاطعتها المشرفة قائلة:" لا تخافي يا سيدتي .. علا في عيوننا" فتغص الأم
والعبرات تخنقها وعيناها مسمرتان على عصفورتها المهاجرة:" سلمت
عيناك يا بنتي، لا تؤاخذيني إنها غالية" وتتوقف علا عند الباب وتقول لأمها:
"لماذا لا تصعدين معنا يا أمي؟ هيا سنتأخر على المدرسة" فترد المشرفة وهي
تمسح شعر علا:" المدرسة للأطفال يا حلوتي .. وأمك ستعود لتنجز أعمالها"
وتتوتر علا، فقد شعرت أن الأمور ليست كما كانت تتصور وأنها وقعت في
فخ كبير .. فهي تريد أن تذهب إلى المدرسة ولكن لم تفكر كيف ستترك أمها ..
فقالت:" أرجوك يا أمي أن تأتي معي" فردت الأم:" لن تتأخري يا حبيبتي ..
أنا بانتظارك" وأغلق باب الحافلة وتوقفت علا حزينة والدموع تملأ عينيها من
وراء النافذة تلوح لأمها، فرفعت الأم يدها ملوحة ترسم ابتسامة شاحبة باردة
على شفتيها المرتجفتين وتابعت الحافلة حتى غابت عن الأنظار .. مسحت
وجهها المبلل وشدت رداءها على جسدها وهي تقول:" كنت أعرف أن اليوم
بارد، بل شديد البرودة". ودخلت وهي تتمتم و تقرأ المعوذات تبتهل إلى الله أن
يحمي عصفورتها الصغيرة ..
¥