تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[من واقع عملي (2)]

ـ[علي مخلوف الفرجاني]ــــــــ[09 - 12 - 2008, 11:49 م]ـ

من واقع عملي

حينما يصبح الهدف واحدا

إذا توحدت الرؤى، فإن الخطى ستتوحد، لأن الخطى بنت الرؤى، وحينئذ لن يجد تعارض الأفكار ولا تضاربها لنفسه وطنا أو متنفسا، وهذا يتجسد في دور المفتش و المعلم، فهما يعملان للإنسان، ومع الإنسان، لذا أعتبر دور المفتش رافدا و مكملا لدور المعلم، فهدفهما واحد وهو بناء الإنسان.

اليوم .. دعوت نفسي إلى وجبة إيمانية دسمة في إحدى مدارس البنات، إنها حصة في مادة التربية الإسلامية، طرقت الباب، ووقفت على يمين باب الفصل، فخرجت طالبة، فبعد السلام عليكم، قلت لها: هل هذه حصة المعلمة ....... ؟ فكانت إجابتها بالإثبات، ثم أفسحت لي المجال للدخول، فأسمعت الحاضرين السلام، وحينما كانت رجلاي تحملاني إلى المقعد الذي تعرفه وتعرفونه أنتم أيضا في كل زيارة تفتيشية إلى آخر مقعد، واليدان منشغلتين بحمل الحقيبة، كانت عيناي تتفقدان السبورة وما كُتب عليها من عناصر الدرس، فمكث نظري معلقا بالسبورة؛ لأنه أحاط بما لم يحطه من ذي قبل لدى المعلمين الآخرين، لقد ألفيت خريطة على السبورة،والمعلمة قائمة بشرحها، يوحي لك المشهد وكأنها معلمة في مادة الجغرافيا، وبعد أن أطمأنت في القعود، بدأت حدقة العين تجوب المكان و السكان، ثم شرعت في تدوين المعلومات التوثيقية التي اعتادت يدي اليمنى على كتابتها كاسم الدرس و المادة و التاريخ واليوم و الفصل و الحصة و التخصص ..... إلخ.

لقد كان الدرس عن سيرة أفضل الخلق رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه في هجرته الكبرى إلى المدينة المنورة، والخريطة كانت لشبه الجزيرة العربية، رسمتها المعلمة على السبورة؛ لتوضح للطالبات بشكل جلي الطرق التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند خروجهما من مكة في الخفاء بعيدا عن أعين كفار قريش متجهين إلى المدينة، ولم تكن الخريطة موجودة في ثنايا الكتاب، مما يتطلب من المعلمة البحث و التقصي في كتب السيرة و الجغرافيا عن خريطة لتلك المنطقة، فشرحها يدل على تمكن المعلمة من الدرس ومهارتها في عرضه بكل وضوح وسلاسة و بأيسر الطرائق، لأن تعلم الطالب بالمشاهدة يتكفل بالامتياز وسرعة الإنجاز، بخلاف التلقين أو أية طريقة أخرى، وبالإضافة إلى ما تتضمنه هذه الطريقة من جذب لانتباه الطالب وتشويقه للدرس، وإشغال أكبر عدد من الحواس، ولكن .. على أهمية الوسائل التعليمية في إيصال المعرفة أو توضيح فكرة أو حل مشكلة للطلبة، فإننا نجدها مهمشة ومغيبة في الخطط التربوية التي تعتمدها المراكز الوطنية التعليمية في بلادنا، قد يعدونها ترفا وبذخا تعليميا، ليس لها كبير نفع، فلم يتبق للمعلم من الوسائل التعليمية سوى الوسائل الفطرية التي زوّده بها الله عز وجلّ كنبرات الصوت أو حركات اليدين أو تعبيرات الوجه،فما يشغل القائمين على التعليم هو تحريك المعلمين من مدرسة إلى أخرى، كأنهم بيادق على رقعة شطرنج، أو توزيع الطلبة، أو توفير الكتب،وكفى؛ هذا لأن الرؤى ليست واحدة، والأفق ليس واسعا.

قبل أن تزهق روح الحصة بعشر دقائق استأذنت المعلمة الكريمة، لأصافح الطالبات مصافحة علمية، فبسملت، وشكرت المعلمة على إحاطتها بالدرس، وكان عليّ أن أضيف للمعلمة المتألقة المحبّة لطالباتها شيئا ينمي لديها روح الإبداع و الابتكار، ولكن عن طريق المشاهدة لا التلقين.

لذا كان آخر سؤال في ثياب قصة قلت للطالبات: لو أن عمك وخالك قاما بزيارتكم في البيت،ومن فرط مذاكرتك في مادة التربية الإسلامية التي سيجرى لك امتحان فيها غدا، لم تقومي بواجب السلام عليهما إلا متأخرا، فاستغربوا ذلك منك، فأخبرتهم عن السبب الذي حجبك عنهم، فسألوك عن موضوعات المادة للاطمئنان عليك، فقلت: سيرة رسولنا الكريم و دروس معمقة عن الزكاة، فصاح خالك كأنه وجد شيئا كان يبحث عنه منذ زمن قائلا لوالدك وعمك: ألم تتذكرا في السنة الماضية أننا قد دفعنا الزكاة جميعنا وفي يوم واحد؟ فأجابا معا: بلى، هذا صحيح، وأضاف والدك: وأتذكر يا بُنيتي أن زكاتي كانت بالمال، بينما خالك كانت بالحيوان، وأما عمك فكانت بالحرث، فأعجبك الأمر، ووجدت أن ما لديهم الآن قد بلغ النصاب،فقمتِ بسؤالهم عن تاريخ ذلك اليوم، فبدأ ثلاثتهما بالتحاور و التشاور؛ لمعرفة اليوم الذي دفعوا فيه الزكاة، فأيقنوا أنهم دفعوها في 25 من ذي القعدة من العام الماضي، واليوم هو غرة شهر ذي القعدة، ثم توجه لك عمك بالحديث قائلا: يا بنة أخي بما أننا تذكرنا هذا الأمر بصعوبة، فنخاف لو انتظرنا إلى يوم 25 من هذا الشهر لدفع الزكاة، أن ننسى دفعها، ألا نستطيع أن نقوم غدا صباحا بدفع الزكاة؟

فجال بصري - أنا المفتش - نحو الطالبات باحثا عن جواب لسؤال عمهن، فانبرت كوكبة من الطالبات، يستأذن ليبُحن بالجواب، فأشرت إلى إحداهن فقالت: أسمحُ لأبي أن ينهض صباح غد لدفع الزكاة، أما عمي و خالي، فلا أسمحُ لهما، فأرسلت لها ما في جعبتي من أسهم الشكر، باحثا عن طالبة أخرى، تعلل حكم هذه الطالبة الذي كان عين الصواب، فأومأت إلى طالبة أخرى فقالت: لأن أحد شروط صحة الزكاة هو إخراج الزكاة بعد وجوبها (أي بعد بلوغها الحول القمري والنصاب) فلا تصح الزكاة قبله إلا في زكاة الأموال، فيصح إخراجها قبل وجوبها بشهر، فشكرت الطالبة شكرا لا حد له ولا ساحل، و عمّ ثنائي وتقديري كل الحاضرين.

وبعد الحصة أثنيت على جهد المعلمة وتفانيها في التدريس، وعلى الخريطة التي قربت مسافة المعلومة من ذهن الطالبة، ثم استلمت مني المعلمة لواء الثناء،وأظهرت لي مدى إعجابها بالقصة، وطريقة سردها،وكيفية توظيفها لخدمة الدرس.

فقالت لها: إذا أردت أن تتذكر الطالبات شرحك و لا ينسينه حتى ولو صرن عجائز بثلاث أرجل،

اجعلي المادة لصيقة بحياتهن، و ألا تكون المادة رهينة بالامتحان أو حبيسة أسوار المدرسة فقط.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير