قلت: أما قولكم إنه حكَّم الرجال في دين الله، فإنَّ الله تعالى يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم) (المائدة: 95)، وقال في المرأة وزوجها: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا) (النساء: 35). أنشدكم الله: أفحكمُ الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحقُّ أم في أرنب فيها ربع درهم؟! قالوا: اللهم في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم، قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم. وأما قولكم: إنه قاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، أتَسْبون أمَّكم، أم تستحلُّون منها ما تستحلُّون من غيرها؟! فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام. إن الله تعالى يقول: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب: 6). وأنتم تترددون بين ضلالتين فاختاروا أيتهما شئتم، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم. وأما قولكم محا اسمه من أمير المؤمنين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتاباً فقال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب يا علي: محمد بن عبد الله. ورسول الله كان أفضل من علي، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم".
هذا الحوار لم يتجاوز دقائق معدودة، لكن كان للأسلوب الذي اتبعه ابن عباس أبلغ الأثر، حتى قيل إن (4) آلاف من الخوارج رجعوا في تلك اللحظة! ومن اللطائف والآداب المستنبطة من هذا الحوار:
أولاً: التهيؤ للحوار والاستعداد له؛ فابن عباس تأهب لهذا الأمر واستعد له، ولبس أحسن الحُلَل، وجاء وهو يحمل الحُجَّة.
ثانياً: تهيئة نفسية الطرف الآخر وحسن الاستماع له وإعطاؤه المجال لأن يقول كل ما عنده؛ فابن عباس بدأ الحوار بقوله: "أخبروني ماذا تنقمون على ابن عم رسول الله ... ؟ " ولم يُجب حتى انتهوا من كلامهم، وكان يسألهم بعد كل إجابة: "أخرجتُ من هذه؟ " حتى يعطي الطرف المقابل الحرية في أن يقول كل ما عنده. وهذا أمر مهم فكثير من الحوارات تؤول إلى خلافات لأن كل طرف يريد أن يتكلم ولا يريد أن يسمع!
ثالثاً: اختيار المقدمات المناسبة؛ فمقدمة كلام ابن عباس كانت تحمل رسائل غير مباشرة للقوم. قال رضي الله عنه: "أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله وخِتْنِه وأول من آمن به وأصحاب رسول الله معه؟ " فهو يُذَكِّرهم بمنزلة علي رضي الله عنه، وأنه ابن عم رسول الله وزوج ابنته وأول من آمن به والصحابة معه، فكأنه يقول: هذا الرجل الذي ربّاه النبي فهو أعلم الناس بمنهج هذا الدين وبهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إن الصحابة الذين رباهم النبي أيضاً معه، وأنتم ليس معكم أحد من الصحابة، وكأنه يضع الطرفين في كفتي ميزان، فيتأمل العاقل قدر ومكانة الطرفين.
رابعاً: العلم؛ فالمحاور ينبغي أن يكون مُتَمكّناً من القضية التي يناقش فيها؛ حتى لا يُغلب بحجة خصمه. وهذه الصفة كانت واضحة عند ابن عباس؛ فقد جاءهم بالأدلة من الكتاب والسنة والتي تؤيد رأيه وتُفْحم الطرف الآخر.
خامساً: وجود مرجعية للطرفين؛ فينبغي أن يتفق المتحاوران على مرجعية يرجعون إليها عند الاختلاف. وهذا ما أكّده ابن عباس عندما قال: "أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المُحْكَم، وحدّثتكم من سنة نبيكم ما لا تنكرون؛ أترجعون؟ ".
سادساً: حسن اختيار الكلمات مع الاختصار؛ فالمهم هو قوة الحجة.
منقول: http://www.hoffaz.org/forqan/F2006/F49/furqan49-09.htm
ـ[ابو الفضل التمسماني]ــــــــ[05 - 03 - 06, 12:24 ص]ـ
جزاكم الله خيرا
ـ[أم معين]ــــــــ[11 - 10 - 06, 08:41 م]ـ
أحسن الله إليكم