الضائقة الخانقة مع قوتها إلى قبول الذل والهوان.
يا طالب العلم ... أخي وحبيبي في الله ....
اعلم هداني الله وإياك أنَّ من خطب الحسناء لم يُغله المهر، وأنت طالب لنعيم الآخرة فدونك رياحين الجنَّة، فلقد قال حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة)) [حديث صحيح، أخرجه الإمام مسلم].
يقول ابن الجوزى: " تأملت عجباً، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله، فإنَّ العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار، وهجر اللذات والراحة .. ".أهـ
ولذلك قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه (مفتاح دار السعادة): " وأما سعادة العلم فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع، وصدق الطلب، وصحة النية ".
فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة،يقول الإمام مسلم في صحيحه: قال يحيى بن كثير: " لا ينال العلم براحة الجسم ".
وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.
حتى قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: " حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار منه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراكه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه ".
ولذلك ــ أخي في الله ــ من تمثل سير سلفنا الصالح، ونظر في معاناتهم في طلب العلم هانت عليه كل شدة، واحتقر نفسه أمامهم، فقد كابدوا من الصعاب ما يفوق التخيل، وتركوا البلاد والأولاد وهجروا اللذات والشهوات، وجابوا مشارق الأرض ومغاربها سعيًا وراء حديث واحد، أو لقاء شيخ أو معرفة مسألة، فانظر إلى هؤلاء الأفذاذ كيف طلبوا العلم عساك تنتفع بذلك.
قيل للإمام أحمد: رجلٌ يطلب العلم يلزم رجلاً عنده علم كثير أو يرحل؟
قال: يرحلُ، يكتب عن علماء الأمصار، فيشامُّ النَّاس، ويتعلم منهم.
وقيل له مرةً: أيرحلُ الرجل في طلب العلم؟ فقال: بلى والله، لقد كان علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، ـ وهما من أهل الكوفة بالعراق ـ يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه ـ إلى المدينة المنورة ـ فيسمعانه منه "
إنَّ شأن الرحلة قديم تليد، بداية من رحلة نبي الله موسى الكليم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، وقد قصَّ الله خبر رحلته في القرآن الكريم، مع عبده الخضر وما كان في رحلته من العوائق والغرائب، فبقيت الرحلة سنة نبوية وشعار طلبة العلم إلى يوم الدين.
وهؤلاء صحابة الرسول منهم من قطع مئات الأميال ليلقاه ويتثبت من صدق نبوته، ومنهم من سافر إليه من البلاد البعيدة ليسأله عن مسألة وقعت له.
فهذا عقبة بن الحارث سافر من مكة إلى المدينة ليلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن مسألة رضاع وقعت له، فعن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج. فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كيف وقد قيل؟! " ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره [أخرجه البخاري (88) ك العلم، باب الرحلة في المسألة النازلة].
وهذا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد، روى البخاري في الأدب المفرد أن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فابتعت بعيرًا، فشددت إليه رحلي شهرًا، حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أنَّ جابرًا بالباب فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله!! فقلت: نعم. فخرج فاعتنقني، قلت: حديث بلغني لم أسمعه خشيت أن أموت أو تموت …. فذكر الحديث " [حديث صحيح أخرجه البخاري في الأدب المفرد (970) باب المعانقة،].
نوادر الرحلات
ما صنعه هذا الإمام العظيم الحافظ أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد الأندلسي ـ رحمه الله ـ (ت 276 هـ) فقد نقل بعض العلماء من كتاب حفيده قوله: سمعت أبي يقول: رحل أبي من مكة إلى بغداد، وكان رجلا بغيته ملاقاة أحمد بن حنبل.
¥