وقد اشتهر لدى سلفنا الصالح رضوان الله عليهم إرسال أبنائهم في باكورة حياتهم إلى مؤدبين لحفظ القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة من ناحية، ولتعليمهم السمت والهدي والخلق الحسن من ناحية أخرى، فإذا بلغوا سن التكليف أحضروهم مجالس بعض العلماء ليقتدوا بهم في الهدي والسمت والعبادة، وذلك قبل أن يخرجوهم إلى حلق العلم، فإن من أدب صغيرا قرت عينه كبيرا، ومن أدب ابنه أرغم أنف عدوه! ولله در القائل
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب
يذكر الحافظ الذهبي رحمه الله أن المأمون كان قد عهد إلى الفراء بتربية ولديه يلقنهما النحو، فأراد القيام، فابتدرا إلى نعله، فقدم كل واحد منهما فردة، فبلغ ذلك المأمون، فقال: لن يكبر الرجل عن تواضعه لسلطانه وأبيه ومعلمه!
وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: (علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروهم الشعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فإنهم أحسن الناس رعة، وأحسنهم أدبا، وجنبهم السفلة والخدم، فإنهم أسوأ الناس رعة وأسوأهم أدبا، ومرهم فليستاكوا عرضا، وليمصوا الماء مصا، ولا يعبوه عبا، ووقرهم في العلانية، وذللهم في السر، واضربهم على الكذب، إذ الكذب يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار، وجنبهم شتم أعراض الرجال، فإن الحر لا يجد من عرضه عوضا، وإذا ولوا أمرا فامنعهم من ضرب الأبشار، فإنه عار باق، ووتر مطلوب! واحملهم على صلة الأرحام، واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب.
ويقول الإمام مالك رحمه الله: كانت أمي تعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه، ويقول عبد الله بن المبارك: (كانوا يطلبون الأدب ثم العلم) ويقول أيضا: (كاد الأدب يكون ثلثي العلم) ويقول أبو زكريا العنبري: (: (علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كجسد بلا روح)، ويقول سفيان بن سعيد الثوري: (ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وكان الرجل لا يطلب العلم حتى يتأدب ويتعبد قبل ذلك عشرين سنة!)
ولا شك أن الحرمان من الأدب آية شقاوة وخذلان، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، وما استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب، لقد كان أدب مع الوالدين في قصة الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة طوق نجاة،وكان أدب الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وإحجامه عن أن يتقدم بين يديه قائلا: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم سببا في إرثه لمقامه والإمامة بعده، فكان ذلك التأخر منه إلى الوراء ليتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم سببا في جعله في طليعة الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقفزا به إلى الأمام بعيدا بعيدا إلى غايات تنقطع دونها أعناق المطي! وكان الإخلال به في قصة جريج – على الرغم من التأويل – سببا في بلائه بهدم صومعته وضرب الناس له ورميه بالفاحشة!
يقول الجلاجلي البصري: التوحيد موجب يوجب الإيمان، فمن لا إيمان له فلا توحيد له، والإيمان موجب يوجب الشريعة، فمن لا شريعة له فلا إيمان له ولا توحيد له، والشريعة موجب يوجب الأدب، فمن لا أدب له لا شريعة له، ولا إيمان له، ولا توحيد له!
ويقول عبد الله بن المبارك: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة (مدارج السالكين: 2/ 381
وقد أشرف الليث بن سعد على بعض أصحاب الحديث فرأى منهم شيئا كرهه فقال: ما هذا؟! أنتم إلى يسير من الأدب، أحوج منكم إلى كثير من العلم!)
ورحم الله الخطيب البغدادي الذي آلمه ما يقع من بعض طلاب الحديث في زمانه فأرسل هذه الزفرات: (وقد رأيت خلقا من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث، ويعدون أنفسهم من أهله، المختصين بسماعه ونقله، وهم أبعد الناس مما يدعون، وأقلهم معرفة بما إليه ينتسبون، يرى الواحد منهم إذا كتب عددا قليلا من الأجزاء، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر، أنه صاحب حديث على الإطلاق، ولما يجهد نفسه ويتعبها في طلابه، ولا لحقته مشقة الحفظ لصنوفه وأبوابه ...... إلى أن قال: (وهم مع قلة كتبهم لهم وعدم معرفتهم به أعظم الناس كبرا، وأشد الخلق تيها وعجبا، لا
¥