تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[ما ينبغي على العامي فعله عند تناقض الفتاوى]

ـ[ Abou Anes] ــــــــ[18 - 01 - 05, 05:40 م]ـ

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تطرق الشيخ عبد العزيز الراجحي ـ حفظه الله ـ لهذه المسألة قائلا:

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه يلزمه الأخذ بقول الأعلم والأورع والأدْيَن، بعد الاجتهاد في أعيان المفتين، وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين واحتجّوا على ما ذهبوا إليه بما يأتي:

1 - أن في الأخذ بقول الأفضل احتياطًا لدينه؛ قياسًا على ما لو مرض إنسان وعنده طبيبان، واختلفا في وصف الدواء والعلاج، فإنه يأخذ بقول أحذقهما؛ حفظًا لصحته واحتياطًا لها، فالاحتياط لدينه أولى.

2 - ولأن طريق معرفة الأحكام الظن، والظن في تقليد الأعلم الأدْيَن أقوى، فوجب الأخذ به.

3 - ولأن إحدى الفُتياوين خطأ، وقد تعارضتا عنده فلزمه الأخذ بأرجحهما.

4 - أن قول المفتيين في حق العامي بمنزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين، فكذلك يجب على العامي الترجيح بين المفتيين.

5 - ولأن من اعتقد أن الصواب في أحد القولين، لا ينبغي له أن يأخذ بالتشهّي، ويختار من المذاهب أيسرها على نفسه ويأخذ بالرخص.

القول الثاني: أنه يتخيَّر في الأخذ بقول من شاء منهما، وإلى هذا ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين واحتجوا على ما ذهبوا إليه بما يأتي:

1 - الإجماع من الصحابة؛ إذ كان فيهم الفاضل والمفضول، وكان العامي يأخذ بقول كل منهما من دون نكير.

ونوقش هذا الدليل: بأن الإجماع محمول على ما إذا لم يسألهما فإنه حينئذ مخيَّر في سؤال من شاء منهما؛ إذ لم ينقل إلا ذلك، أما إذا سألهما واختلفا في الفتوى، فإنه يجب عليه الاجتهاد والأخذ بقول الأعلم والأدين.

2 - قوله -عليه الصلاة والسلام-: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.

ووجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بأن من اقتدى بواحد من الصحابة فهو مهتد، وهم مختلفون في العلم والورع، وهذا يدل على أن العامي يتخيَّر في الأخذ بقول من شاء من المفتيين عند اختلافهما في الفتوى.

ونوقش هذا الدليل بما يأتي:

(أ) أن الحديث لم يصحّ، فقد رواه عبد بن حميد في مسنده من طريق حمزة النصيبي عن نافع عن ابن عمر وحمزة ضعيف، ورواه الدارقطني في غرائب مالك وفي سنده جميل بن زيد وهو غير معروف، ورواه البزار وفي سنده عبد الرحيم بن زيد العمي وهو كذاب، وروي من طرق أخرى لم يصح منها شيء، وقال فيه ابن حزم هذا خبر موضوع باطل.

(ب) أنه لو صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد فاستفتى صحابيًا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه، ولا يدخل تحت الحديث ما إذا تعارض عند المقلد قولان لمفتيين؛ لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يوجب ضد ما يقتضيه دليل صاحبه، فاتباع أحدهما بالتخيير اتباع للهوى، فلم يبق إلا الترجيح بالفضل والعلم.

3 - أن العامي يحكم بالوهم ولا يعلم الأفضل حقيقة، بل يغترّ بالظواهر، وربما قدم المفضول على الفاضل، وذلك أن لمراتب الفضل أدلة غامضة لا يدركها العوام ولو جاز للعامي أو وجب عليه الأخذ بقول الأعلم جاز له النظر في المسألة ابتداء.

ونوقش هذا الدليل بما يأتي:

(أ) أن هناك أمارات تفيد غلبة الظن يميز بها العامي الفاضل من المفضول، دون البحث عن علمه، والعامي أهل لذلك، منها:

1 - الإخبار، بأن يتواتر الخبر بأنه الأعلم، أو يخبر عنه بعض العلماء بتقديمه، وهذه أمارة قولية.

2 - إذعان المفضول له وتقديمه له.

3 - أن يرى الناس يرجعون إليه في الاختلاف.

4 - أن يرى الاستفتاءات تأتيه من بعيد، دون غيره.

وهذه الثلاث الأخيرة أمارات فعلية.

(ب) أن من مرض له طفل، وكان في البلد طبيبان وذهب إليهما فاختلفا في الدواء، فخالف الأفضل عُدَّ مقصرًا، ويعلم أفضل الطبيبين بتواتر الأخبار، وبإذعان المفضول له، وبقرائن أخرى تفيد غلبة الظن، فكذلك في حق العلماء بالنسبة للمقلد.

4 - ولأن المفضول من أهل الاجتهاد ولو انفرد لوجب على العامي الأخذ بقوله، فكذلك إذا كان معه غيره، وزيادة الفضل لا تؤثر. ونوقش هذا الدليل بما يأتي:

(أ) قولكم: إن المفضول إذا انفرد أخذ بقوله فكذلك إذا كان معه غيره، يجاب عنه بأن هذا قياس مع الفارق؛ إذ أنه إذا انفرد وجب على العامي الأخذ بقوله لعدم وجود ما يعارضه، أما إذا وجد معه غيره، واختلفا في الفتوى، فإنه يجب عليه الاجتهاد والترجيح، كتعارض الدليلين عند المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معًا، ولا اتباع أحدهما من غير ترجيح ولا اجتهاد، فكذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معًا، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح.

(ب) قولكم: إن زيادة الفضل لا تؤثر يجاب عنه: بأن زيادة الفضل تفيد قوة الظن في معرفة الحكم، ولله -تعالى- سرٌّ في ردّ العباد إلى ظنونهم، حتى لا يكونوا مهملين، مسترسلين كالبهائم، متبعين للهوى، بل هم ملجمون بلجام التقوى.

الترجيح: بعد ذكر الأقوال في هذه المسألة يتبين لي أن الراجح هو القول الأول، وهو القول بأن المستفتي يلزمه الأخذ بقول الأعلم الأدين.

وجه ترجيحه:

1 - ما سبق من مناقشة أدلة القائلين بأنه يتخير في الأخذ بقول من شاء منهما.

2 - أن القول بالتخيير يلزم عليه محذوران:

أحدهما: أن هذا قول بجواز تعارض الدليلين في نفس الأمر؛ لأن فتوى كل واحد من المفتين مناقضة لفتوى الآخر، وقد استند كل منهما في فتواه إلى دليل.

الثاني: أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعبة هواه، وتخييره بين القولين المتناقضين نقض لهذا الأصل؛ إذ أننا متى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم، لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة.

نقلا عن موقع الشيخ عبد العزيز الراجحي ـ حفظه الله ـ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير