[الموءودة]
ـ[د. خالد الشبل]ــــــــ[24 - 06 - 2003, 10:09 ص]ـ
شعر: صالح العمري
تباشر الأمَّ آلامُ الولادة فتتصارع في صدرها الأشجان والأحزان ..
سطى عليها الردى من غير تمهيدِ ... وباغتتها الرزايا دون موعودِ
طريحة .. ولها أنات مُحتَضِرٍ ... كمذنبٍ في عُرى الأغلال مصفودِ
تستنشق الموت في لُجّ المخاض ضنىً ... وتمخر الليل في همٍّ وتسهيدِ
كأنما ثار في أعماقها حممٌ ... تُعالج الطلقَ من ضيقٍ وتنهيد ِ
يخفّ حينا، وحينا يصطلي ألما ... وتستشدُّ الحشايا كالجلاميد ِ
أمٌّ تمنى الردى في نحر مسغبةٍ ... كأن ساعاتها اُخْتصت بتخليدِ
أو أن في بطنها طعنات معْتَرَكٍ ... فللولادة بأسٌ غير مردود ِ
حتى إذا الروح فاضت من مكامنها ... وحشرجت في اللّهى بين اللغاديدِ
واستسلمت فرّج الرحمن كربتها ... واجتالت الدار صرخات المواليد ِ
بنتٌ .. وفي عينها للحب أشرعةٌ ... والحسن يزهر بين الخدّ والجيد ِ
بنتٌ .. تقرُّ عيون الناظرين بها ... كبلبل الروض في زهوٍ وتغريدِ
بنتٌ .. وفي ضحكها أسرارُ مرحمةٍ ... وفي مناغاتها أحلى الأناشيدِ
بنتٌ لها في كتاب الله أسورةٌ ... من الحقوق بتشريفٍ وتمجيدِ
وضجّ للوالد الجبّار زمجرة ٌ ... هوجاءُ تعصفُ في جورٍ وتنكيدِ
وخيّم الصمت واسودّت ملامحه ... وصال صولة تنديدٍ وتهديدِ
مكدّر الصدر. في زفراته حُرقٌ ... يُخفي محيّاه عن وجه الصناديدِ
خجلانُ هل يمسك البشرى على مضض ... حيرانُ أم هل تُسجّى في ثرى البيدِ
وعنّ للأم أشجانٌ مؤرّقةٌ ... ودمعها مسبلٌ مثلُ العناقيدِ
في مأتم العطف لم تظفر ببسمتهِ ... وما استفاقت على صوت الزغاريدِ
وأزبد الخوف واسترخى بكلكله ... على فؤادٍ من الأرزاءِ مكبودِ
واستأنفت رحلة الأيام سيرتها ... و في يد الله تسيير المقاليدِ
ونشّأتها على حبٍّ و مرحمةٍ ... تكاد تحملها في الأعين السودِ
تفتقت وفؤاد الأم يكلؤها ... عن غيلة الغدر أو عن سطوة الكيدِ
كالزهر في وشيهِ يختالُ منتشيا ... كالطير في غصنهِ عذبِ الأغاريدِ
تضُمّها تحت خدرٍ دافيءٍ كَنِفٍ ... وتفتدي روحها عن هجمة الصّيدِ
حتى إذا عقلت وازدان منطقها ... تساءلت عن أبٍ حيٍّ كمفقودِ
قالت وللحزن في نبراتها شجنٌ ... والدمع يهمل في شجوٍ وتنهيدِ
أمّاه: أين أبي .. ما باله ألِقاً ... يغضُّ عين الرضا عن أعين الغيدِ
أنا اليتيمة في هجري ومغتربي ... أنا الحبيسةُ في جّبِّ التناهيدِ
قالت: نكأتِ،وفي شكواكِ موجدتي، ... جرحَ الكرامة في وجدان مفؤودِ
والظلمُ حتفُ وريح الجهل منتنةٌ ... من يطلق النفس من قيدٍ على قيدِ؟!
يا ويحها فتّت الطغيانُ مهجتها ... ولم تذق طعم إيماني وتوحيدي!!
وما درت عن وصايا الله في دُرَرٍ ... من الكتاب وعن نور المسانيدِ!!
من كرّم البنت من أعلى منازلها ... من صانها عن غريب اللحظ والأيدي؟
جُعلن دون عذاب الله مدّثراً ... و بابَ جنّات تكريم ٍ وتخليدِ؟!!
لعلّ لليل فجرٌ يُستنار به ... يطوي الدّياجير عن أُفقِ المناكيدِ ..
وأقبل الوالد الغدّار مبتسما ... واستظهر اليوم وجها غير معهودِ
وقال: فلتكتسي الحسناءُ حلّتها ... وَصْلُ الخؤولة من فعل المحاميدِ
قالت له الأم: هل للذئب مؤتمنٌ ... فمدّ يمناه .. وهو الفاتك المودي!!
واحتدّ يقسم أيمانا مغلّظةً ... وكرر العهد في عزمٍ وتشديدِ
و داعب البنت في خبثٍ وفي عبثٍ ... كالذئب حين يداري فجعة الصَيْدِ
فاستبشرت طفلةُ الأحلام وانطلقت ... وعادة الوغد إخلافُ المواعيدِ
رفّت له كفراش الروض وابتهجت ... جذلى .. تغرّدُ في لحنٍ وترديدِ
حسناءُ زاكية، ميساءُ شاديةٌ ... غيداءُ غافلةٌ .. ريّانة العودِ
في كفّها كفّهُ .. والسعد يغمرها ... وما درت أنها في كفّ نمرودِ
سارت وسارت وطيرُ الشوقِ يحملها ... كأنها من غمار البشر في عيدِ
وحدثته عن الوحش المهيبِ وعن ... لعب الصبايا وعن أنشودة العيدِ
حتى إذا استأنست أمنا أحاط بها ... وزجّها زجّةً في مرتع والدودِ
تبكي وتصرخُ والأحجار تلجمها ... لكنّها صرخةٌ في وجه جلمودِ
في موقفٍ زيّن الشيطان فعلته ... وانفضّ منه فؤاد البرّ والجودِ
وغيبتها يد الأفاك وانطفأت ... ما أرخص الروح في عرف التقاليد!!
وما انحنى لاستغاثاتٍ مخضّبةٍ ... تصدّعت من أساها قسوة الطودِ
يا للبراءة في الرمضا معفرّةً ... والترب يعلو على الأهدابِ والجيدِ
غِيلت. وظلمُ ذوي القربى أشد على ... نفس المحبيّن من ظلم الأباعيدِ
غيلت .. وما نُصرت في أمةٍ جهلت ... تتيه في غيّها من غير تسديدِ
وسجلت دمعةُ الأم الرءوم لها ... في خدّها ذكرياتٍ كالأخاديدِ
يا ويحه من مقامٍ حالكٍ أسِفِ ... وشاهدٍ للأسى الضاري ومشهودِ
لله قبرٌ زوى في لحده جسدا ... غضّ المحيّا كزهرٍ قُدّ من عود
والموت أجمل إكراما وعاقبةً ... من المذلّة في أكناف عربيدِ
يا عينُ سحّي فإن تبكي لها فلقد ... بكى لها خيرُ من صلّى على البيدِ
وسجل الله في القرآن لوعتها ... تسجيل رعبٍ وإشفاقٍ وتنديدِ
بأي ذنبٍ قُتلتِ يا فتاة؟! ومن ... يكفي المسيئين بأساً غير مردودِ؟!
واليوم يا كم فتاةٍ غرّةٍ وُئدت ... بمشهدٍ ساقطٍ أو نغمةٍ تودي!!
وكم فتكنا بأجيالٍ مضَلّلةً ... والموت يبرق من أطباقنا السودِ
وللمخدر أسواقٌ مروجّةٌ ... ودون صوت الردى أسوارُ تهويدِ
تربو المعاصي وغرقانا لهم غصصٌ ... والله يبسط كفّ العفو والجودِ
ماذا نقول إذا ما الله ساءلنا ... عن ألفِ موءودةٍ فينا وموءود؟!!!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
¥