تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والمصطفى -صلى الله عليه وسلم- معصوم من الكذِب ومن التّغرير، ولذلك أتى بأسلوب الشّرط. وهذا الأسلوب أداته: "لو"، وهي أداة امتناع الامتناع. فكذِبه على قومه مستحيل، لأنّ كذِبه على الناس جميعاً مستحيل. وكذلك تغريره بقومه مستحيل، لأنّ تغريره بغيرهم من الناس داخل في دائرة الاستحالة.

ونجد المؤانسة والمؤاخاة والمُصافاة والمحبّة الصافية تَسكن حروفَ هذه الكلمات النّقيّة الحانية. وليس هناك أصفى وداً، أو أنقى إخاءً، أو أشبع عاطفةً، من إشباع الإحساس بالخصوصية والمودّة في القربى. وهذه الخصوصية تَعبق بعِطرها الإنساني والنبوي هذه العبارةُ الحانية الراشدة، بما تنشره من ظلال الأمان في النفوس، وبما تزرعه من ثمار الهداية في القلوب. يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لأهل مكة -أحبّ البلاد إليه-، يقول: ((إنِّي لَرسول الله إليكم خاصّة، وإلى الناس كافّة)).

وبعد هذا التواصل الحميم، وهذا التأثير العميق، يُقرِّر المصطفى -عليه الصلاة والسلام- حقيقةَ الحقائق، ولُبّ الألباب، وجوهرَ العقيدة، وصُلب الرسالة، وهي: حتميّة الإيمان بالبعث، والإيمان باليوم الآخِر وما فيه من ثواب وعقاب وجنّة ونار. ويتوسّط دائرةَ الإيمان بالبعث، ووجوبية وجود الجنة والنار، محور الوجود الإنساني في حياته الدنيا، وضرورة الإيمان بالحساب والجزاء على ما تقدّم من أعمال، فيقول: ((ولَتُحاسَبُنّ بما تعمَلون! ولَتُجْزَوُنّ بالإحسانِ إحساناً، وبالسوء سوءاً!)). فهنا العدالة في أسمى تصوّرٍ لها؛ فالخطاب للجميع، والثواب للمُحسن، والعقاب للمُسيء، عمَلاً بقول الله -عز وجل-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}، ويقول تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}.

هو في أوّل خطبة خطَبها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالمدنية، نجِده يُحذِّر البشرية كلّها من الغفلة والتفريط في المسؤولية، ويُطلِعُهم على مصير المعانِدين والجاحدين الذين لم يُنفِّذوا تعاليم الله ولم يطبِّقوا منهَجَه في الأرض، ويُرشد الناس إلى طريق الخير وإلى سُبل النجاة من النار؛ وكلّ ذلك يتمّ عَرْضه في صياغة متنوّعة الأساليب، وفي جُمَل واضحة لا التواء فيها ولا ابتذال، وإنّما تفيض هذه الجُمل بالقوّة والصِّدق، والحرْص على نجاة كلّ من آمن بالله وبرسوله ورسالة الإسلام.

ويروي ابن هشام في "السيرة النبوية" نصّ هذه الخطبة قائلا: وكانت هذه أوّل خطبة خطَبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. قال: نعوذ بالله أن نقول على رسول الله ما لم يَقُلْ -كأنه يُؤكِّد أنّ هذا النص روايته صحيحة- فيقول: ((إنه قام فيهم، فحمِد الله وأثنى عليه بما هو أهلٌ له، ثم قال: أمّا بعد، أيّها الناس! قدِّموا لأنفسكم! تَعلَمُنَّ والله، لَيُصْعَقَنّ أحدُكم، ثم لَيدَعَنّ غنمَه ليس لها راعٍ، ثم ليقولَنّ له ربُّه وليس له ترجمان ولا حاجب يَحجُبه دونه: "ألم يأتِك رسولي فبلّغَك؟ وآتيتُك مالاً، وأفضلتُ عليك؟ فما قدّمتَ لنفسك؟ ". فلَينظُرَنّ يميناً وشمالاً، فلا يرى شيئاً. ثم لَينظُرَنّ قدَُّامه، فلا يرى غيرَ جهنّم! فمَن استطاع أن يقِيَ وجهَه من النار ولو بشِقِّ تمرة فلْيفعَلْ! ومن لم يجِدْ فبكلمة طيِّبة؛ فإنّ بها تُجْزَى الحسنةُ عشْرَ أمثالِها إلى سبعمائة ضِعف -ثم قال:- والسلام عليكم وعلى رسولِ الله، ورحمةُ الله وبركاتُه)).

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير