[القيمة التاريخية للمقامة واستشفاف لبعض نماذجها في عصر الضعف]
ـ[تأبط شعرا]ــــــــ[13 - 03 - 2008, 12:01 ص]ـ
للمقامة قيمتها التاريخية التي لا تُجْحَد؛ إذ هي تَنْطِق بما يُلِمّ بالعصر منأحداث، وتفصح عن أخلاق أهله وألوان الحياة لديهم، وذلك على غرار مقامة الشيخ جمالالدين عمر الرصعني في وصف وقعة حلب، منها:
"هذا وقد نزلت فنون البلاء بالشام، وهَمَلَتْ عُيُونُ العناء كالغمام، وصار وشامالإسلام كالوشام، وخفيت آثار المآثر ودَرَسَتْ، وطفئت أنوار المنابر وطمست، وحلبتالعيون ماءَهَا على حلب، وسكبت الجفون دماءها من الصَّبَب، والتقى عليها الختلوالاختلال، واحتفى بها القتل والوبال، وتخرَّبَتِ الدور والقصور، ونُحِرَتِ الحورفي النحور، وجرت عيونها على أعيانها، وهمت جفونها على شُبَّانها، ولما تعظم العدووتكبر، وتقدم بالعتوِّ وتجبر، أطلع الله له طلائع اللواء المظفر ... إلى آخر ما جاءفي هذه المقامة.
هي مقامة طويلة تنفر مما بها من تكلف، كان وراء تسمية ابن الوردي إياهابالـ"مرصعة"، جدير بالذكر أن جل كتاب المقامات في هذا العصر كانوا يُطَرِّزُونَمقاماتهم بأشعارهم على نحو ما فعل الشاب الظريف في مقامته التي تدور حول شابٍ أرادأن يستمتع بالرياض، فوجد جماعةً يتذاكرون الأدب ويروون الشعر والخطب، وبينهم شابعليه أمارات الغرام أعجب الحاضرون بحديثه، وفي المقامة ينشد الشاب قوله:
هل عائدٌ والأماني ربما صدقتْ
دهرٌ مضى، ومغاني حسنهم أَمَمُ
يا غائبين ووجدي حاضر بهم
وغائبين وذنبي في الغرام همُ
ومن مقامات العصر الشهيرة: مقامة حاتم ابن أحمد العطار والتي منها -وهي مروية فيكتاب (الطالع السعيد) للإدفوي - يقولالعطار:
روي في الأخبار عن حاتم العطار إذًا هو الراوي؛ إذًا لا راوية هنا في مقاماتالعصر المملوكي، إن الكاتب حَلَّ نفسه محل البطل عند الهمذاني والحريري، "روي فيالأخبار عن حاتم العطار"، إذًا الحرص على السجع المتواتر أو البديع المتواتر مازالقائمًا لا يَريم في مقامات العصر المملوكي:
"روي في الأخبار عن حاتم العطار قال: "ضربت بظاهر بعض الأمصار، لأقضي وَطَرًا منالأوطار، فنظرت إلى أعلام على أطلال، تلوح على البعد كالجبال، ففسحت الخطى في السعيإليها، وَعَوَّلْت في المسير لديها، فإذا هي روضة قد زهت أوساق بواسقها، وأمرعتأفنان حدائقها، وذُلِّلَت قطوفها، وجلت عن الإحصاء صنوفها، وصَفَّقَتْ جداولها، وزَمْزَمَتْ على إيقاع الأوتار بلابلها، وأخذ بها الهزار في الهديل، وتغنت الشحاريرعلى حس النواعير.
قَدْ تَبَاهَى الْمَنْثُورُ فِيهَا عَلَى الْوَرْ
دِ وَنِسْرِينُهَا عَلَىالْجُلنارِ
ثم قال -في وصف أهلها-: كحورٍ متكئين، على سررٍ متقابلين - قد فضوا قمص الوقار، وتحلَّوا بحلي البهاروالنضار، يتناشدون الأشعار الأوسية، والملح الأدبية ويتواردون الأخبار النبوية، والخطب الوعظية، ويتناظرون في الآراء الطبية، والأحكام الفلكية.
"فبينما هم على تلك الحال، إذ ورد عليهم رجل من الرجال، -وراح يحكي ما دار بينهموبين هذا الرجل.
هذه المقامة تجري على هذا النسق لوحاتٍ متعاقبة يظهر فيها الكاتب مقدرته الفنية، فَيُمْتِعُ السامعين من أهل المجلس، وهي قريبة مما كان يرتجله بطل مقامات الهمذاني، وَيَلْجَأُ إليه من تمويه على السامعين ببراعته الأدبية؛ نظمًا ونثرًا.
جدير بالذكر أن نقول: إنَّ المقامة شاركت الرسالة، وإن المقامة قامت في عصرالمماليك بدور المقالة في العصر الحديث، هكذا رأيتَ أنَّ الكتابة بفنونها وأغراضهاقد تفاعلت مع الحياة، وتجاوبت مع ظواهرها المختلفة، فكانت المرآة المجلوَّة التيصَوَّرَتْ في دقةٍ وأمانةٍ أبعاد ومناحي الحيوات: السياسية والاجتماعية والدينيةوالثقافية، وما نبا شيءٌ ما من ظواهرها عن أَقْلَامِ الأدباء في عصر المماليك، وكانت الكتابة بشموليتها في هذا العصر أسعد حظًّا من الشعر، وعلى الرغم من ذلك فلمتصل الكتابة إلى ما كانت عليه في ظلال العباسيين.
لقد كانت الكتابة بكل فنونها وأغراضها أسعد حظًا من الشعر في عصر المماليك، لكنعلى الرغم من ذلك لم تصل الكتابة إلى ما كانت عليه في ظلال العباسيين من قوةٍونشاطٍ وازدهارٍ وروعةٍ ورقي.