لماذا أقدِّم أبا نواس ...
ـ[رسالة الغفران]ــــــــ[12 - 04 - 2008, 07:04 م]ـ
أقدِّم أبا نواس لأنهم قالوا أنه الشاعر وأحسن من اشتق، وأغزر من تخيل، وأعذب من عليها، وأشعر أهل زمانه، وأطرف أهل زمانه وأكثرهم أدباً.
أقدّم أبا نواس لأن نوبخت سمع أبو نواس يوماً من المنجمين يقولون: كان لدوران الفلك ابتداء كان قلبه ساكنا؛ والهند يقولون: إن الله عز وجل، لما خلق النجوم خلقها مجتمعة واقفة في مكان واحد، ثم فرقها وأدارها، فقال أبو نواس قصيدته التي أولها:
أعطتك ريحانَها العقار = وحان من ليلك انسفار
أعطتك ريحانها، لمّا شربتها تحوّل طيبها إليك.
ومنها
تحيرت والنجوم وقف = لم يتمكن بها المدار
فسبك قول المنجمين في هذا البيت. والمنجمون يقولون: إن النجوم كانت واقفة ً، وإنها لا تزال تسير إلى أن تجتمع في البرج الذي ابتدأها فيه، فإذا عاجت اليه جميعها في درجة واحدة قامت القيامة وبطل العالم.
والهند يزعمون أن لما اجتمعت في برج الحوت، اجتمعت الا يسيرا منها فهلك الخلق بالطوفان، وبقي من العالم بقدر ما بقي منها خارجا عن الحوت ولو كانت بأسرها في الحوت لم يبق أحد.
ومن طيب هذه القصيدة قوله:
فَلَم تَزَل تَأكُلُ اللَيالي = جُثمانَها ما بِها اِنتِصارُ
حَتّى إِذا ماتَ كُلُّ ذامٍ = وَخُلِّصَ السِرُّ وَالنَجارُ
عادَت إِلى جَوهَرٍ لَطيفٍ = عِيانُ مَوجودِهِ ضِمارُ
كَأَنَّ في كَأسِها سَراباً = تُخيلُهُ المَهمَهُ القِفارُ
لا يَنزِلُ اللَيلُ حَيثُ حَلَّت = فَلَيلُ شُرّابِها نَهارُ
أقدَّم أبا نواس لأن الأصمعي فضله على شعراء زمانه بهذه القصيدة:
أَما تَرى الشَمسَ حَلَّتِ الحَمَلا = وَقامَ وقتُ الزَمانِ واعْتَدَلا
وَغَنَّتِ الطَيرُ بَعدَ عُجمَتِها = وَاِستَوفَتِ الخَمرُ حَولَها كَمَلا
وَاِكتَسَتِ الأَرضُ مِن زَخارِفِها = وَشيَ ثيابٍ تَخالُهُ حُلَلا
فَاِشرَب عَلى جدَّةِ الزَمانِ فَقَد = أَصبَحَ وَجهُ الزَمانِ مُقتَبِلا
كَرخِيَّةٌ تَترُكُ الطَويلَ مِنَ ال = عَيشِ قَصيراً وَتَبسُطُ الأَمَلا
تَلعَبُ لِعبَ السَرابِ في قَدَحِ ال = قَومِ إِذا ما حَبابُها اِتَّصَلا
يَقولُ صَرِّف إِذا مَزَجتَ لَهُ = مَن لَم يَكُن لِلكَثيرِ مُحتَمِلا
فسقِّ هذا بقدر طاقته = واحمل على ذا بقدر ما احتملا
عُجنا بِثِنتَينِ مِن طَبائِعِها = حُسناً وَطيباً تَرى بِهِ المَثَلا
واختُلف في قوله:
واستوفت الخمر حولَها كَمَلا
فقيل: انه أراد أن الكرم أول ما يعقد، ويخرج من العدم إلى الوجود، إنما هو شمس الحمل وأول السنبلة، ثم إنها تبقى في الدنان والأوعية إلى أن تشرب فإذا شربت في نزول الشمس برج الحَمَل فقد استوفت سنةً بهذا الاعتبار.
وقد لعب أبو نواس أيضاً في قوله:
قد جرى في عودك الما=ء فأجرى الخمر فينا
فالماء أول ما يجري في عود الكرم هو الذي يصير ماءً في العنب بعينه، ثم هو الذي يعتصر خمرا بعينه، فهو من أول جرْيه في العود، إلى أن يصير عنبا، إلى أن يعصر إلى أن يشرب، يستكمل سنةً عند حلول الشمس الحمَل.
وقيل إن " الهاء " في قوله حولَها تعود على الشمس لا على الخمر، والكناية عنها تحسن، لتقدم ذكرها، وإن كان ذكر الخمر في البيت الثاني، إلا أنه بدأ بذكر الشمس في شعره، فقال: أما ترى الشمس، ثم ذكر الزمان والخمر والطير فقال:
واستوفت الخمر حولَها كملا
يعني: حول الشمس كاملاً، لأن الشمس إذا حلت الحَمل تكون قد قطعت الفَلط من أوّله إلى آخره في حول كامل، ثم إنها تبتدئ في الحول الثاني.
ومعنى استيفائها حوْل الشمس: أن الله، عز وجل، خلق الشمس والقمر والنجوم في رأس الحَمل، والليل والنهار سواء، والزمان معتدل في الحر والبرد فكلما حلّت الشمس رأس الحمل فقد مضت سنة للعالم، فقال: استوفت الخمر حول الشمس، وإن لم تأت الخمر في نفسها على حوْل، وإنما أراد أن شُربها يطيب في ذلك الوقت، لاعتدال الزمان وتفتح الأنوار، وتجُّر المياخ، وغناء الأطيار وإزهار الأشجار.
وكان أبو عمرو الجرميّ يقول:
أقوى ما يكون الخمر لدون السَّنة، فإذا زادت على ذلك شيئاً رقّت، وحسن لونها، وضعف أخذُها.
وكان ثعلب يقول: لما كان قد مضى أكثر شهور الحَول استجاز أن يقول
استوفت حولها كَملا
كما قال الله تعالى: " والحج أشهرُ معلومات " وهي شعران وأيام، ودخل عليه قوله "كملا" تأكيد.
ومن قال: إن الخمر لسبعة أشهر، أو لثمانية أشهر، قد استوفت حولها الذي هو عامها، أو حولها الذي هو شدتها، أو حولها الذي هو غاية انتقالها، فقط غلط، لأنها لم تستوف ذلك في هذه المدة.
وقال ثعلب، أيضا / الحَوْل: التَّحَوُّل، يريد أنها كانت إلى وقت الربيع عصيرا لا يطيب شُربه، ثم تحولت غي ذلك الوقت فصارت خمراً مَشروبه.
وقيل حَولها / تغيرها لأنها تحول في الجن مرات وتتلون فاذا مضت هذه المدة قرّت ولزمت شيئاً واحدا، فكأن " حولها " من: حالت تَحُول حولا.
وكان المبرد يختار أن يكون "حولها " قوتها ومن قولهم لا حَول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يتبع،،،
¥