[شوقي في منفاه]
ـ[عامر مشيش]ــــــــ[18 - 04 - 2008, 06:53 م]ـ
:::
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي وهو في منفاه بإسبانيا (بلاد الأندلس)
" لما وضعت الحرب الشؤمى أوزارها وفضحها الله بين خلقه وهتك إزاراها ورمّ لها ربوع السلم وجدد مزارها أصبحتُ وإذا العوادي مُقصرة والدواعي مُقصِّرة، وإذا الشوق إلى الأندلس أغلب والنفس بحق زيارته أطلب، فقصدته من برشلونة وبينهما مسيرة يومين بالقطار المُجد، والبخار المشتد، أو بالسفن الكبرى الخارجة إلى المحيط، الطاوية القديم نحو الجديد من هذا البسيط، بلغت النفس بمرآه الأرب، واكتحلت العين في ثراه بآثار العرب، وإنها لشتى المواقع، متفرقة المطالع، في ذلك الفلك الجامع، يسري زائرها من حرم، كمن يمسي بالكرنك ويصبح بالهرم، فلا تقارب غير العتق والكرم، (طُليْطِلة) تطل على جسرها البالي، و (أشبيلية) تشبل على قصرها الخالي، و (قرطبة) منتبذة ناحية بالبيعة الغراء، و (غرناطة) بعيدة مزار الحمراء. وكان البحتري رحمه الله رفيقي في هذا الترحال، وسميري في الرحال، والأحوال تصلح على الرجال، كل رجل لحال، فإنه أبلغ من حلّى الأثر، وحيّا الحجر، ونشر الخبر، وحشر العِبر، ومن قام في مأتم على الدول الكُبر، والملوك البهاليل الغُرر، عطف على (الجعفري) حين تحمل عنه الملا، وعطل منه الحُلى، ووُكِل بعد (المتوكل) لِلْبِلى، فرفع قواعده في السِّير، وبنى ركنه في الخبر، وجمع معالمه في الفكر، حتى عاد كقصور الخلد امتلأت منها البصيرة وإن خلا البصر، وتكفل بعد ذلك (لكسرى) في إيوانه، حتى زال عن الأرض إلى ديوانه، وسينيته المشهورة في وصفه، ليست دونه وهو تحت (كسرى) في رصه ورصفه، وهي تريك حسن قيام الشعر على الآثار، وكيف تتجدد الديار في بيوته بعد الاندثار، وهذه السينية هي التي يقول في مطلعها:
صنت نفسي عما يدنس نفسي .......... وترفعت عن ندى كل جبس
والتي اتفقوا على أن البديع الفرد من أبياتها قوله:
والمنايا مواثل وأنوشر ................ وان يزجي الجيوش تحت الدَّرَفس
فكنت كلما وقفت بحجر، أو أطفت بأثر، تمثلت بأبياتها، واسترحت من مواثل العبر إلى آياتها، وأنشدت فيما بيني وبين نفسي:
وعظ البحتريَّ إيوانُ كسرى ......... وشفتني القصور من عبد شمس
ثم جعلت أروض القول على هذا الروي، وأعالجه على هذا الوزن حتى نظمت هذه القافية المهلهلة، وأتممت هذه الكلمة الرَّيِّضة، وأنا أعرضها على القراء، راجيا أن يلحظوها بعين الرضا، ويسحبوا على عيوبها ذيل الإغضاء،
وهذه هي:
اِختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي=اُذكُرا لِيَ الصِبا وَأَيّامَ أُنسي
وَصِفا لي مُلاوَةً مِن شَبابٍ=صُوِّرَت مِن تَصَوُّراتٍ وَمَسِّ
عَصَفَت كَالصِبا اللَعوبِ وَمَرَّت=سِنَةً حُلوَةً وَلَذَّةُ خَلسِ
وَسَلا مِصرَ هَل سَلا القَلبُ عَنها=أَو أَسا جُرحَهُ الزَمانَ المُؤَسّي
كُلَّما مَرَّتِ اللَيالي عَلَيهِ=رَقَّ وَالعَهدُ في اللَيالي تُقَسّي
مُستَطارٌ إِذا البَواخِرُ رَنَّت=أَوَّلَ اللَيلِ أَو عَوَت بَعدَ جَرسِ
راهِبٌ في الضُلوعِ لِلسُفنِ فَطنُ=كُلَّما ثُرنَ شاعَهُنَّ بِنَقسِ
يا اِبنَةَ اليَمِّ ما أَبوكِ بَخيلٌ=ما لَهُ مولَعاً بِمَنعٍ وَحَبسِ
أَحرامٌ عَلى بَلابِلِهِ الدَو=حُ حَلالٌ لِلطَيرِ مِن كُلِّ جِنسِ
كُلُّ دارٍ أَحَقُّ بِالأَهلِ إِلّا=في خَبيثٍ مِنَ المَذاهِبِ رِجسِ
نَفسي مِرجَلٌ وَقَلبي شِراعٌ=بِهِما في الدُموعِ سيري وَأَرسي
وَاِجعَلي وَجهَكِ الفَنارَ وَمَجرا=كِ يَدَ الثَغرِ بَينَ رَملٍ وَمَكسِ
وَطَني لَو شُغِلتُ بِالخُلدِ عَنهُ=نازَعَتني إِلَيهِ في الخُلدِ نَفسي
وَهَفا بِالفُؤادِ في سَلسَبيلٍ=ظَمَأٌ لِلسَوادِ مِن عَينِ شَمسِ
شَهِدَ اللَهُ لَم يَغِب عَن جُفوني=شَخصُهُ ساعَةً وَلَم يَخلُ حِسّي
يُصبِحُ الفِكرُ وَالمَسَلَّةُ نادي=هِ وَبِالسَرحَةِ الزَكِيَّةِ يُمسي
وَكَأَنّي أَرى الجَزيرَةَ أَيكاً=نَغَمَت طَيرُهُ بِأَرخَمَ جَرسِ
هِيَ بَلقيسُ في الخَمائِلِ صَرحٌ=مِن عُبابٍ وَصاحَت غَيرُ نِكسِ
حَسبُها أَن تَكونَ لِلنيلِ عِرساً=قَبلَها لَم يُجَنَّ يَوماً بِعِرسِ
لَبِسَت بِالأَصيلِ حُلَّةَ وَشيٍ= بَينَ صَنعاءَ في الثِيابِ وَقَسِّ
قَدَّها النيلُ فَاِستَحَت فَتَوارَت=مِنهُ بِالجِسرِ بَينَ عُريٍ وَلُبسِ
¥