نشأ أبو القاسم الشابي في أسرة دينية فقد تربى على يدي أبوه وتلقن روح الصوفية الصحيحة التي كانت سائدة في المغرب العربي، وسددتها دراسته الدينية، وساعده مكوثه في مدينة تونس لدراسة الحقوق أن ينضم للنادي الأدبي وأخذت مواهبه الأدبية تبرز وتعبر عن نفسها في قصائد ومقالات ومحاصرات، أعلن فيها عن نفسه وهو دون العشرين. ونلمح في عجالة لتجربته الكبرى التي باءت بالفشل لأن طائر الموت اختطف حبيبته وأعقبه بفترة أن أختطف أبوه مثله الأعلى ومربيه ومثقفه.
وفي غرة شهر فبراير 1929 القى محاضرة مشهورة في قاعة الخلدونيّة بتونس عن "الخيال الشعري عند العرب"، وقد عمل فيها على استعراض كلّ ما أنتجه العرب من الشّعر، في مختلف الأزمنة وفي كل البلدان، من القرن الخامس إلى القرن العشرين ومن الجزيرة إلى الأندلس، وحمل فيها النفس العربية كل الذنوب في تأخرنا عن مواكبة حضارة العصر; فنادى بتحرير الشعر العربي من كل رواسم القديم والاقتداء بأعلام الغرب في الفكر والخيال وأشكال التعبير.
وقسا بالأحكام والنقد حتى صدمت محاضرته عقول المحافظين من رجال الثقافة والسياسة فجعلوا يعرضون به في المجالس، وأثارت في تونس أولاً ثم بالمشرق العربي بعد ذلك سلسلة من ردود الفعل العنيفة ضد مؤلفها.
بدأت نفسه تضيق بحدود البيئة، فاتخذ من مجلة "أبولو" بالقاهرة منبرًا، ونشر فيها عددًا من قصائده الكبار، جعلت رئيس تحريرها الشاعر أحمد زكي أبو شادي يطلب من شاعرنا الشاب أن يكتب مقدمة ديوانه "الينبوع". ثم عكف الشابّي على إعداد ديوانه "أغاني الحياة" للنشر في القاهرة برعاية "أبولّو"، إلا أنّ الموت عاجله.
وبدأ الشابي أول يناير 1930 كتابة "مذكراته" ولكنه توقّف للأسف عن كتابة المذكرات في شهر فبراير من السنة نفسها. وذكر في مذكرة 13 يناير أنه عليه أن يلقي محاضرة عن الأدب العربي. وذهب صحبة بعض أصدقائه إلى الموعد ولكنه وجد القاعة فارغة، فلم يعد أحد يرغب في الاستماع إليه بعد محاضرته السابقة عن "الخيال". وقد أثر فيه مشهد القاعة فارغة تأثيرا عميقا، فنظم في نفس ذلك اليوم قصيدته الشهيرة: "النبي المجهول" يقول فيها:
أيْها الشعبُ! ليتني كنتُ حطَّابا= ًفأهوي على الجذوعِ بفأسي!
ليتَني كنتُ كالسيّولِ، إذا ما= سال َتتهدُّ القبورَ: رمْساً برمٍسِ!
ليتَني كنتُ كالريّاح، فأطوي= ورودُ الرَّبيع مِنْ كلِّ قنْس
ليتني كنتُ كالسّتاء، أُغَشِّي= كل ما أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي!
ليتَ لي قوَّة َ العواصفِ، يا شعبي= فأُلقي إليكَ ثَوْرة َ نفسي!
ليت لي قوة َ الأعاصيرِ! إن= ضجَّت ْفأدعوكَ للحياة ِ بنبسي!
ليت لي قوة َ الأعاصيرِ .. ! لكْأنتَ =حيٌّ، يقضي الحياة برمسِ .. !
أنتَ روحٌ غَبِيَّة ٌ، تكره النّور،=وتقضي الدهور في ليل مَلْس ...
وأتمّ في تلك السّنة نفسها دراسته في مدرسة الحقوق التونسية، وكان وقتها مريضا، وذكر أخاه الأمين أن عوارض المرض الأولى ظهرت عليه سنة 1929 وظل مرضه غير معروف على وجه الدقة، ولم يسع إلى الإقبال على عمل، بسبب مشاغله العائلية ومرضه أو بسبب تصوره دور الشاعر أو لكل هذه الأسباب مجتمعة.
معاني في شعره:
شخصية الشابي وجدت الرومانسية الملاذ الوحيد له ليعبر عن ما في نفسه وقد كان الطابع المميز لشبان عصره وهو سر الذيوع. وقد كان مؤمنا بقضيته السياسة وكان من الذين حاربوا الاستعمار، وأبرز عاطفته الصادقة في عدة مواضع ذكرها د. عبد اللطيف شرارة في كتابه "الشابي"، وخليفة محمد التليمي في كتابه: "الشابي وجبران" ومن الكتاب نقرأ المعاني التالية:
الوطنية:
نلاحظ أن ما أثار وطنية الشابي بالدرجة الأولى هي اصطدامه بالرجعية، ووطنيته وطنية جد صارخة ذات هجمات نارية عاتية مدمرة، ولكن لم تكن موجهة للاستعمار بقدر ما هي موجهة لسلاحه الرجعية التي حبست أنفاس الشعب.
الطبيعة:
حين نتأمل شعر الشابي في ذكره للطبيعة فهو ينظر إليها بعاطفة رفيعة تنبعث من مشاركته لظواهرها والاندماج معها، حتى يصل إلى حد الموت الفاني في جمالها.
المرأة:
¥