الواقعيون يرون البلاغة في تصوير الطبيعة على الواقع المحسوس , وتفسير غوامضها على المعنى الحق , والواقع يكون خيرا كما يكون شرا , والمعنى يكون حسنا كما يكون قبيحا , ولكنهم يجعلون بالهم إلى دقائق الحياة المبتذلة القبيحة أكثر مما يجعلونه إلى دقائقها المصونة الجميلة , لاعتقادهم أن الشر في الناس هو الأصل , وأن القبح في الطبيعة هو الجوهر.
فالواقعية تلاحظ الطبيعة وتنقلها نقلا موضوعيا محايدا أمينا لا تدخل الفنان بشعوره الشخصي فيه , ولا تحفل بإظهار السمات الجمالية به , ولا تقصد إلى استنباط المغزى.
وربما كان الخلاف بين الواقعية العربية والواقعية الأوربية , أو بين الواقعية المتطرفة والواقعية المعتدلة، أن من الواقعيين العرب من يريد أن يهبط باللغة والأسلوب إلى مستوى الأميين فيكتب لهم بالعامية ويدني المعاني من أفهامهم بتجريد الأسلوب من خصائصه البلاغية وسماته الجمالية حتى لا يكون الأدب في ذاته غاية يصفو به الذوق وتسمو به الروح وتجمّل به الحياة.
والمذهب الواقعي الإجتماعي في النقد يحارب نظرية " الفن للفن " التي أشاعت مذهب النقد الفردي في الأدب الأوربي , وهو " الذي يبحث عن الشاعر في الشاعر نفسه ولا يرتضي أن يبذل جهدا كبيرا في وصف بيئته، والإلمام بأحوال عصره , وإنما يكتفي بأن يمر بها لماما , وأن يعرضها عرضاً سريعاً ".
ويرى توفيق الحكيم أن الفن ليس من الضروري أن يكون له غاية إجتماعية أو سياسية أو دينية أو غير ذلك. وإنما هدفه الأول أن يكون فنًّا جميلاً فحسب، فليس على الأديب أن يكرّس حياته وفنّه لخدمة الحياة والناس , وللتوجيه الوطني أو القومي أو الإنساني، وإنما عليه أن ينشىء في الفن، مجرّداً عن كل غاية. ويذهب أحمدأمين إلى نظرية " الفن للحياة " فيرى أن العمل الفني لا قيمة له إذا لم يكن مستمدًّا من الحياة , ولم تكن غايته خدمتها.
فالمذهب الواقعي أو الاجتماعي يرى أن الأدب والفن ليس مما تجود به قرائح الأفراد، وإنما مصدره الجماعة وروح الشعب , فهو ثمرة إحساسها ونتيجة تفكيرها.
وكان اليونانيون القدماء يرون للشعر وظيفة , وكانت تلك الوظيفة هي التعليم. ويقول هوراس: " غاية الشعراء إما الإفادة أو الإمتاع , أو إثارة اللذة وشرح عبر الحياة في آن واحد ". ولقد هاجم أفلاطون الشعراء في عصره , وكان هذا الهجوم خروجاً على النظرة اليونانية القديمة التي كانت ترى في الشعر منبعاً للتعليم. ورأى أنه يجب أن يكون الصدق لا اللذة رائدًا للشعر , والمحكى أن يكون جميلاً وإن شئت فقل خيراً.
إن الصراع بين المذهب الفردي، والمذهب الواقعي الاجتماعي في النقد قديم!
من أنصار المذهب الواقعي جماعة من روّاد أدبنا الحديث، وقد دعا بعضهم إلى الإنسانية والعالمية في الأدب , ومنهم أبو شادي الذي يقول في اللاجئين العرب:
خرس فمن عن ويلهم يتكلّم؟ =ومعذبون لهم تقام جهنم
جنت السياسة مثلما جنت الوغى=والظالمون الغاشمون عليهم
وتشرّدوا لا يملكون وجودهم=لو كان يمتلك الوجود المبهم
ضاعت معاقلهم , وضاعت قبلها=أمم , وهان معزز ومنعم
ليس المقام مقام لوم شامل=ولعل أول مَنْ يُلامُ اللُّوَّمُ
والناس .. ماللناس لم يتأثروا؟ =والأهل .. ماللأهل لم يتندّموا
وإذا قرأنا رأي " نيتشه " الفيلسوف الألماني: " رسالة الكاتب هي الكشف للناس عن الحقيقة بلهجة العصر الذي يبعث فيه " لم يفتنا أن نفهم الحقيقة التي يرديها نيتشه هي الحقيقة التي تملأ الحياة قوّة ووجوداً وشعوراً بالسيادة , فهي حقيقة الوجود الكامل، وبذلك يتسنّى لنا أن نرد رأي نيتشه إلى تأييد غالب الرأي الواقعى في الأدب والنقد .. وحول المذهب الواقعي يدور هيكل في تعريفه الأدب بأنه " فن جميل، غايته تبليغ الناس رسالة ما فى الحياة والوجود من حق وجمال , بواسطة الكلام , والأديب هو الذي يؤدي هذه الرسالة ".
ويتردّد شعر أبي شادي، والزهاوي , وعمر أبي ريشة , ومحمود أبو الوفا، بين الرومانتيكية والواقعية , فنرى في شعرهم ألواناً من الشعر القومي والوطني والاجتماعي , وتصوير الحياة العاملة، حياة الصانع والفلاح , ووصفاً لمشاعر المجتمع وعواطفه وحياته، ومن الشعراء الناهجين منهج الواقعية: رئيف خوري , وبدوى الجبل , ومحمد مهدي الجواهري , وعبدالوهاب البيّاتي، وغيرهم.
وقصيدة أبي شادي " هاتى المش " - وهي على لسان فلاح مستعبد في الأقطار المتخلّفة يخاطب ابنته، وقد بلغ منه اليأس كل مبلغ – مثال للأدب الواقعي:
غلب الجوع فهاتى المش هاتي! =لا تقولي اللحم- إنْ أصبر- سياتي
سادتي أولى به، مذ نهبوا=كل حق لي وعاثوا بحياتي
لا تقولي الدود قد أفسده= إنما الدود - وإن يحقر – لداتي
حقه العيش كحقي، ماله= أي ذنب غير ذنبي أو أذاةِ
مدحوني مثلما قد لعنوا=قد تساوى المدح واللعن لذاتي
هذه الأمراض لم تترك سوى = رمق داسته أقدام الجُناةِ
أتراني في غد مسترجعاً=قوتي أو طارحاً عني أناتي؟
ليتني حتى تدوي صرختي =ويجازي كل مأفون وعاتِ
أسرعي! فالوقت قاس ٍ صارمٌ=إن وقت العبد من وقت العُتاةِ
أسرعي! لا تحلمي واهمة=واتركيني في همومي يا فتاتي
ربما تثمر يوماً حنظلاً = بل سموماً للشياطين الطغاةِ
كم نبات دِيسَ بالأقدام لم=يقبل الدوس حقيراً فى النباتِ
ومضى مستشرياً يقضي على=شامخ الأشجار , فذاً فى العصاةِ
هذه حالي وذي فلسفتي=وكفاحي بين صبر وصلاةِ
إن يكن جهلي وفقري حجة=لاضطهادي، فأمر الثأر آتِ!
::::
دمتم في حفظ الله ورعايته.