وحده باجتماع هاتين الصفتين , كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن. فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده بأنه رحيم ; ولكن من الممتنع من الناحية الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن. ومن باب أولى أن تجتمع له الصفتان. . ومهما يختلف في معنى الصفتين: أيتهما تدل على مدى أوسع من الرحمة , فهذا الاختلاف ليس مما يعنينا تقصيه في هذه الظلال ; إنما نخلص منه إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها.
وإذا كان البدء باسم الله وما ينطوي عليه من توحيد الله وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي. . فإن استغراق معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها في صفتي الرحمن الرحيم يمثل الكلية الثانية في هذا التصور , ويقرر حقيقة العلاقة بين الله والعباد.
الفاتحة (الحمد لله رب العالمين):2
وعقب البدء باسم الله الرحمن الرحيم يجيء التوجه إلى الله بالحمد ووصفه بالربوبية المطلقة للعالمينالحمد لله رب العالمين). .
والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله. . فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء. وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع , وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان. . ومن ثم كان الحمد لله ابتداء , وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر: (وهو الله لا إله إلا هو , له الحمد في الأولى والآخرة. . .. (
ومع هذا يبلغ من فضل الله - سبحانه - وفيضه على عبده المؤمن , أنه إذا قال: الحمد لله. كتبها له حسنة ترجح كل الموازين. . في سنن ابن ماجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حدثهم أن عبدا من عباد الله قال:" يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ". فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها. فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها. قال الله - وهو أعلم بما قال عبده -:" وما الذي قال عبدي ? " قالا: يا رب , أنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال الله لهما:" اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ". .
والتوجه إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله - كما أسلفنا - أما شطر الآية الأخير: (رب العالمين) فهو يمثل قاعدة التصور الإسلامي , فالربوبية المطلقة الشاملة هي إحدى كليات العقيدة الإسلامية. . والرب هو المالك المتصرف , ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح والتربية. . والتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين - أي جميع الخلائق - والله - سبحانه - لم يخلق الكون ثم يتركه هملا. إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه. وكل العوالم والخلائق تحفظ وتتعهد برعاية الله رب العالمين. والصلة بين الخالق والخلائق دائمة ممتدة قائمة في كل وقت وفي كل حالة.
والربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل , والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة. وكثيرا ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف بالله بوصفه الموجد الواحد للكون , والاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة. ولقد يبدو هذا غريبا مضحكا. ولكنه كان وما يزال. ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة: (ما نعبدهم إلاليقربونا إلى الله زلفى). . كما قال عن جماعة من أهل الكتاب: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله). . وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام , تعج بالأرباب المختلفة , بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون!
¥