وخذ عندك أيضا ما يقوله العلماء من أن أسلوب القرآن وأسلوب الحديث متمايزان لا يلتبسان. لكن هذا حكم انطباعى لا يمكن أن يستمر هكذا إلى يوم الدين. وهذا ما حدث، فقد وفق الله كاتب تلك السطور إلى وضع كتاب يوضح فيم يتمايز الأسلوبان، اعتمادا على التحليلات والإحصاءات وتقديم الشواهد على صدق ما أقول من مفردات وصيغ وعبارات وتراكيب وأبنية. ولست أزعم أننى قلت كلمة الفصل فى الموضوع، فأنا موقن أن ما صنعته لا يزيد عن أن يكون الخطوة الأولى التى فتحت الباب لمن يأتى بعدى فيضيف إلى ما قلته أشياء وأشياء. إلا أن هذا لا يعنى أن الأوضاع بعد تلك الدراسة التى بلغت ستمائة صفحة ليس فى أية صفحة منها كلمة واحدة إنشائية، بل كل ما فيها مدعوم بالشواهد والتحليلات الواضحة المباشرة التى لا تحتاج إلى تأويل ولا لف أو دوران، هى نفسها الأوضاع قبل القيام بها. وعنوان الكتاب لمن يريد الاطلاع عليه هو: "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية"، وهو متاح على المشباك (الشبكة العنكبوتية).
إذن فقول العلماء شيئا ما بناءً على انطباعاتهم لا يمكن أن يكون حجة قاطعة على ما يقولون رغم أهميته مع هذا، إذ من الممكن أن يكون انطباعا خاطئا، وما أكثر ما تخطئ الانطباعات لدى العلماء! فنحن نقول مثلا إن أسلوب المازنى مميز بحيث يمكن التعرف إليه بسهولة من بين أساليب الكتاب الآخرين. بيد أن هذا لا يصح الجزم به إلا بعد تحليل أسلوب النص الذى بين أيدينا والذى نحس أنه بقلم المازنى ووجدانه متصفا بنفس السمات المميزة لأسلوب ذلك الكاتب المبدع. وهذا يتطلب بدوره أن نكون قد عكفنا قبلا على فحص ذلك الأسلوب بدقة وتعمق وتفصيل وسجلنا نتائج الفحص بحيث تكون بين يدى كل من أراد الاستعانة بها. ومع ذلك كله فمن الممكن أن نخطئ فى نتيجة الحكم على صاحب النص المعين الذى بين أيدينا، إذ الأمر فى مثل تلك الحالة هو من التعقد والتشابك والحساسية بحيث لا يستطيع محللٌ الجزم المطلق بشىء.
وها هو ذا مثال حى على صحة ما أقول، إذ أنكر ابن هشام فى "السيرة النبوية" قصيدة كان ابن إسحاق قد نسبها إلى أحد اليثربيين، ومن ثم حَذَفَها من السيرة مؤكدا أنها شعر مصنوع. قال، رحمه الله، عن هجوم تُبَّع على يثرب فى الجاهلية ثم انصرافه عنها: "فبينا تُبَّع على ذلك من قتالهم إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة ... ، عالمان راسخان في العلم، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك، لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حِيلَ بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة. فقال لهما: ولم ذلك؟ فقالا: هي مُهَاجَر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره. فتناهى عن ذلك ورأى أن لهما علما وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما. فقال خالد بن عبد العزى بن غزية بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار يفخر بعمرو بن طلة:
أصحا أم قد نهى ذِكَرَهْ أم قضى من لذةٍ وَطَرَهْ
أم تذكرت الشباب؟ وما ذكرك الشباب أو عُصُرَهْ؟
إنها حربٌ رباعيةٌ مثلها آتي الفتى عِبَرَهْ
فاسألا عمران أو أسدا إذ أتت عَدْوًا مع الزُّهَرهْ
فيلق فيها أبو كرب سبغ أبدانها ذَفِرَه
ثم قالوا: من نؤم بها؟ أبني عوفٍ أم النجره؟
بل بني النجار. إن لنا فيهمُ قتلى، وإنّ تِرَهْ
فتلقتهم مسايفة مدها كالغيبة النثرهْ
فيهمُ عمرو بن طلة ملَّى الإلهُ قومَه عُمُرَهْ
سيّدٌ سام الملوكَ، ومن رام عمرا لا يكن قَدْرَهْ
وهذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حَنِقَ تُبَّع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أَظْهُرهم، وإنما أراد هلاكهم فمنعوهم منه حتى انصرف عنهم، ولذلك قال في شعره:
حنقًا على سِبْطَيْن حَلاَّ يثربا أَوْلَى لهم بعقاب يومٍ مفسدِ
قال ابن هشام: الشعر الذي فيه هذا البيت مصنوع، فذلك الذي مَنَعَنا من إثباته". ومع هذا فإن ابن هشام قد أورد القصيدة كاملة فى كتابه: "التيجان" دون أن يقول فى حقها كلمة إنكار واحدة! وهذه بعض أبياتها كما أوردها فى الكتاب المذكور:
"ما بال عينك لا تنام كأنما كُحِلَتْ مآقيها بسمّ الأَسْوَدِ؟
حنقًا على سبطين حَلاَّ يثربا أَوْلَى لهم بعقاب يومٍ مفسدِ
.............
ولقد أذل الصعب صعب زمانه وأناط عروةُ عِزَّه بالفرقدِ
............
¥