ولقد لفتت هذه المسألة أنظار الباحثين فأَبْدَوُا استغرابهم أن يكون الشعر الجاهلى بما فيه من فنٍّ متقدمٍ وليدَ تلك المدة القصيرة التى يحددها الجاحظ بمائة وخمسين عاما أو مائتين فقط قبل الإسلام. يقول مثلا أحمد حسن الزيات: "وليس يسوغ فى العقل أن الشعر بدأ ظهوره على هذه الصورة الناصعة الرائعة فى شعر المهلهل بن ربيعة وامرئ القيس، وإنما اختلفت عليه العُصُر وتقلبت به الحوادث وعملت فيه الألسنة حتى تهذَّب أسلوبه وتشعبت مناحيه" (أحمد حسن الزيات/ تاريخ الأدب العربى/ ط24/ دار نهضة مصر/ 28). ويقول أيضا حنا الفاخورى: "وأقدم شعرٍ وصل إلينا كان ما قيل فى حرب البسوس أو قبل ذلك قليلا، وكان قصائد كاملة تدل على محاولات كثيرة سبقتها وهيأت طريقها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من استقامة الوزن واللغة والبيان" (حنا الفاخورى / تاريخ الأدب العربى/ دون دار نشر أو تاريخ/ 52). ومثلهما فى ذلك د. عبد العزيز نبوى، الذى يقرر أن "الشعر الجاهلى، منذ أقدم نصوصه التى وصلت إلينا، قد اكتملت له أو كادت مقوماته الفنية بدءا من طرائق التعبير، وانتهاء بالموسيقى من وزن وتقفية. وهذا يعنى أنه مرت حِقَبٌ طويلة قبل أن يستقر للشعر الجاهلى سماته وخصائصه" (د. عبد العزيز نبوى/ دراسات فى الأدب الجاهلى/ 12) ... إلخ. ويؤكد تشارلز ليال أن "تعدد البحور التى كان يستعملها الشعراء الجاهليون وتعقدها، وكذلك القواعد الراسخة التى تتعلق بالوزن والقافية، فضلا عن الأسلوب الواحد الذى كانوا ينتهجونه فى بناء قصائدهم رغم المسافات التى تفصل كلا منهم عن الآخر، كل ذلك يشير إلى دراسةٍ وممارسةٍ طويلةٍ سابقةٍ لفن الشعر وإمكانات اللسان العربى، وإن لم يكن بين يدينا سجل لشىء من هذا" ( C. J. Lyall, Translations of Ancient Arabian Poetry, London, 1885, P.xvi)، وهو ما يوافقه عليه رينولد نيكلسون ( A Literary History of the Arabs, P.75- 76). وبالمثل يقرر إجناطيوس جويدى فى كتابه: " L'Arabie Antéislamique" أن القصائد الجاهلية الرائعة التى وصلتنا عن القرن السادس الميلادى تشير إلى أن وراءها صنعة طويلة ( I. Guidi, L'Arabie Antéislamique, Paris, 1921, P.21). ويعلل كليمان هوار اختفاء الشعر السابق على ذلك التاريخ بأن الذكريات البشرية، ما لم يتم حفظها كتابة على الجدران أو الحجارة أو الأوراق، فإنها حَرِيّةٌ أن تضيع مع الأيام. ومن ثم يضيف قائلا إن الشعر العربى الذى وصلنا لا يرجع إلى أبعد من القرن السادس الميلادى عندما استُعْمِلت الألفباء النبطية فى تسجيل ذلك الشعر ( Clément Huart, A History of Arabic Literature, William Heinmann, London, 1903, P.7).
وعودة إلى باسيه وما قاله هأنذا أضع بين يدى القارئ عبارته كما هى فى نصها الفرنسى:
“ nous savons que les chants guerriers étaient depuis longtemps en usage chez les Arabes. Un auteur grec, qui écrivit au ve siècle une histoire ecclésiastique, Sozomène, rapporte qu'en 372 de l'ère chrétienne, une reine des Sarrasins, Mania, ou, selon d'autres, Mavia, ayant battu les troupes romaines de Palestine et de Phénicie, le souvenir de cette victoire se conserva dans les chants populaires des Arabes. Il est à regretter que l'historien chrétien ne nous ait pas rapporté, même dans une traduction, quelques fragments de ces vers : nous aurions là le spécimen le plus ancien de la poésie arabe”
هذا عن مرجليوث، أما طه حسين فقد نفى شعر الجاهلية جُلَّه إن لم يكن كُلَّه طبقا لما قال. ولقد اتخذ د. عبد الرحمن بدوى من كتاب ابن سلام بالذات تكأة للدفاع عن نظرية طه حسين الفطيرة التى أخذها من مرجليوث على عين ذلك المستشرق وهواه، قائلا إنه كلما تذكر الحملة الشعواء الهوجاء التى أثيرت حول كتاب "فى الشعر الجاهلى" للدكتور طه حسين فإن عجبه لا ينقضى لأن ما قاله الدكتور طه عن انتحال الشعر الجاهلى وفساد رواياته وما أضيف إليه أو حُذِف منه هو، بنص عبارته، كلام سبق أن قاله وأشبع القول فيه علماء الأدب واللغة القدماء منذ القرن الثانى للهجرة. ثم لم يجد ما يستشهد به فى هذا المجال إلا ما كتبه ابن سلام فى ذلك الموضوع، ليختم اقتباساته الكثيرة من
¥