وبهذا الخصوص يرى العلامة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور رحمه الله بان ترتيب التلاوة أو الترتيب التعبدي كان منظورا فيه تسلسل المعاني، وتناسب أجزاء الكلام بعضها مع بعض، وذلك يرجع إلى مطابقة الكلام بمقتضى الحال. وكلا الترتيبين راجع إلى الوحي وكلاهما واقع به التحدي ألإعجازي إلا أن أولهما مؤقت زائل بزوال ملابساته من الوقائع والأزمنة والأمكنة، والترتيب الآخر هو ترتيب التلاوة التعبدي باق لأنه في ذات الكلام يدركه كل واقف عليه، وتال له من الأجيال المتعاقبة، بينما الترتيب التاريخي لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات من الجيل الذي كان معاصرا لنزول القرآن. ممن كانت لهم تلك الملابسات دلائل وقرائن على ما أريد من المعاني التي استفادوها من التراكيب القرآنية. إن الرجوع إلى الملابسات الوقتية إنما نحتاجه إلى معرفتها معرفة نقلية تصورية ليتمكن الأتون من استعمال القرائن والدوال التي اهتدى بها إلى معاني التراكيب القرآنية سابقوهم. وبذلك طلبوا الرجوع إلى المعارف المنقولة عن تواريخ نزول الآيات ومحالها والمناسبات التي جاءت فيها للاستعانة بذلك على استضاح المعاني المقصودة من التراكيب استعانة فقط لأن للتراكيب دلالتها الذاتية التي لا تحددها، ولا تتحكم في تكييفها تلك المناسبات وإن كانت معينة على استجلائها (10).
هذا إذن هو الفهم الصحيح للعلاقة بين النص والملابسات الزمنية وقد صعب على المؤلفين فهم دلالته بجهلهما بقوانين التركيب اللغوي العربي.
يتطرق المؤلفان إلى مدارس التفسير ( écoles de lecture du coran) وما كان بينها من اختلاف فبعضها كان يتمسك بحرفية النص الى ابعد الحدود ليبقى قريبا من النص ( Près du texte ) في شروحاته آخذا بالمأثور من السلف، أما البعض الآخر فقد فضل الاجتهاد بناء على النظر العقلي.
عندما تشكلت المدارس الدينية وشب الصراع بين التيار العقلي والتيار التقليدي (بين القائلين بالقدر والقائلين بالجبر) وعندما انتشرت الفلسفة اليونانية نتيجة الترجمة إلى العربية وخاصة منطق أرسطو ( La logique d’Aristote ) فإن التيار العقلي عزز مكانته ..
وقد أدى التأثر بالفلسفة إلى ظهور الجدل ( le grand débat théologique) ومن أبرز الفرق التي ظهرت في هذا المجال "المعتزلة" الذين قالوا بخلق القرآن وقاوم مذهبهم الإمام أحمد بن حنبل.
وقد تبنى المؤلفين مذهب المعتزلة حول خلق القرآن ورأوا ان القول بأن القرآن مخلوق ( le Coran est créée ) معناه أنه يتميز عن الذات الإلهية، وبالتالي فهو حادث survenu dans le temps ) ) في الزمن يحتكم فيه للعقل في حين أن الله قديم.
وبالتالي فعلى المؤمنين أن يأولوا النص حسب ما لديهم من قدرات تماشيا مع الأوضاع المختلفة عن تلك التي أنزله الله فيها.
وهذا بخلاف ما يراه "" ابن حنبل "" الذي يقول بأن القرآن غير مخلوق
Incréé) le coran est) بمعنى أنه يعلو على العقل أي لا ينبغي أن يحتكم في تأويله إلى النظر العقلي.
وهنا لابد من إيضاح عدة أمور أغفلها المؤلفان يصعب على غير الملم بتاريخ الفكر الإسلامي، فهمها على وجهها الصحيح
أولا: أن الفرق الفكرية الكبرى في تاريخ الإسلام هم الفقهاء والمتكلمون والفلاسفة.
ثانيا: المعتزلة فرقة كلامية (تدافع عن العقيدة)، والأصول الجامعة لمذهب المعتزلة هي التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكانوا يعتمدون في الاستدلال على عقائدهم على القضايا العقلية دون الآثار النقلية، يعرضون كل مسألة من مسائلهم على العقل، فما قبله أقروه وما لم يقبله رفضوه (11).
تأثر المعتزلة بالفلسفة اليونانية في أرائهم، وأخذوا عنها في مقدمة دلائلهم وأقيستهم واستخدموا بعض طرق الفلاسفة في الجدل والنظر وقد تصدوا للدفاع عن الإسلام في مواجهة الفرق الهدامة (الزنادقة والرافضة والمتنوية وغيرهم) خالف المعتزلة طريقة السلف في فهم عقائد الدين الحنيف وحكموا العقل في كل شيء وجعلوه أساس بحثهم، فجلب عليهم عداوة الفقهاء وكراهيتهم.
وقد اشتغلوا بالجدل والمجادلة نوع من النزال والمحاربة والمحارب مأخوذ بطرق محاربه في القتال مقيدا بأسلحته متعرف لخططه دارسا لمراميه، متقص لغايته، وكل ذلك من شأنه أن يجعل الخصم متأثرا بخصمه، أخذ عنه بعض مناهجه ...
¥