تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

السَّمة المميزة في تاريخ الفكر الغربي - التي ما زالت آثارها باقية حتى الآن - هي وجود صراع بين العلم والديِّن، وقد انتهى هذا الصراع بطرد الدين من مجال النظر والعلم والمعرفة، وعندما حلّ القرن الثامن عشر كان الفكر الغربي قد قطع أعظم الأشواط في التحرُّر من الفكر الدَّيني وسيطرته؛ حتى أُطلق على هذا القرن عصر التنوير، ولم يكن يقصد بالتنوير سوى إبعاد الديِّن، وكان من نتائج الصراع بين الكنيسة والعلماء أن تحولت المعرفة إلى معرفة بشرية محصورة في الواقع المشاهد بعيداً عن الدين الذي هو عدو العلم الأكبر، فانحصر مفهوم العلم في جانبين هما الحقائق التجريبية والحقائق التحليلية، أما حقائق الدين فقد اعتبرت بلا معنى “ meaningless” ولهذا فإن الدين والعلم في الفكر الغربي لا يجتمعان أبداً فما يكون علمياً لا يكون دينياً وما يكون دينياً لا يكون علمياً.

ورغم أن العلم والدين في الإسلام لا يمكن أن يتناقضا؛ إذ أن الكون والوحي مصدران متكاملان متناصران للمعرفة؛ إلا أن بعض المفكرين المسلمين قد تبنوا المشروع التغريبي بكل ما فيه؛ فنادوا بعزل الدين عن العلم وكافة شئون الحياة والأخذ بالحضارة الغربية بكافة جوانبها؛ إذ أن النهضة والتقدم – عندهم – لا يمكن أن تتم إلا بذلك، وقد كان أبرز أنصار هذا الاتجاه الدكتور طه حسين، وقد نادي بالفصل بين الديني والعلمي؛ ولهذا ذهب ـ مؤكداً علمانيته – إلى القول بأن: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي) وعند استجوابه صرح الدكتور بأنه بوصفه مسلماً يقر بذلك، إلا أنه بوصفه عالماً لا يفعل أي أنه يفصل بين العلم والإيمان.

وفي الواقع الفكري المعاصر ظهر كذلك تيار الإصلاح الذي رأى أنصاره عدم التناقض بين الأخذ بالدين والأخذ بأسباب العلم، وإذا كانت تجربة الفكر الغربي ـ عندهم ـ قد وقع فيها هذا التناقض فإن تلك التجربة إنما هي تجربة مختلفة كل الاختلاف عن تجربة الفكر الإسلامي الذي لا يمكن أن يقع فيه هذا التناقض أصلاً، وإذا كان الوحي المسيحي قد أصابته التشوهات والتغييرات واعتراه التحريف والتزييف فليس كذلك الوحي في الإسلام، وكان أبرز أنصار هذا التيار الشيخ عبد الرحمن الكواكبي والإمام محمد عبده والشيخ طنطاوي جوهري، وقد نادى هولاء الإصلاحيون بإصلاح حال الأمة وتبنوا فكرة الإعجاز العلمي والتوفيق بين معطيات القرآن ومعطيات العلم الحديث.

ويذهب طنطاوي جوهري إلى أن من أسباب تأخر الأمة اهتمامها بعلم دون آخر؛ إذ اكتفت بالفقه وأهملت علوم الكون والحياة؛ مع أن اهتمام القرآن بالكون والحياة أكثر من اهتمامه بالفقهيات بصورة واضحة لا لبس فيها ولا خفاء؛ ولذلك يقول: (علم الفقه ليس له في القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؛ فلماذا كثر التأليف في علم الفقه وقلّ في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة؛ بل هي تبلغ (750) آية صريحة؛ وهنالك آيات أخرى تقرب من الصراحة، فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آياته قليلة ويجهلون علماً آياته كثيرة جداً)

ولا شك أن من خصائص الوحي " القرآن والسنة " التي لا مراء فيها أنه تناول بعض القضايا الكونية المتعلقة بعالم الحس الذي تعمل في إطاره العلوم الطبيعية، ولما كان الوحي منزلاً من عند الله والكون مخلوقاً لله فلا يمكن أن يناقض كلامه خلقه، بل لابد من التطابق بين الأمرين؛ يقول ابن تيمية: (ولا يجوز أن يكون في القرآن ما يخالف صريح العقل والحس) ولكن ليس معنى موافقة الحقائق القرآنية لعالم الحس موافقتها بالضرورة لمعطيات العلوم الطبيعية التي ما زالت تتدرج في إدراكها لعالم الحس نحو اليقين.

ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[12 May 2009, 09:42 م]ـ

بيان ضوابط الإعجاز العلمي:

إذا كان الإعجاز العلمي يستند بصورة مباشرة على الوحي والعلم فإن من شأن دراسات هذا الإعجاز أن تتأثر بطبيعة كلا الأمرين وخصائصهما، ومعلوم أن للعلم مشكلاته، ولا شك أن لهذه المشكلات أثرها البيّن على كيفيات معالجة الإعجاز العلمي. وليس ذلك فحسب بل إن التعامل مع القرآن أيضاً في مضمار الإعجاز العلمي دون إدراك الخصائص الدقيقة له يفضي بدوره إلى مشكلات أيضاً، ولذلك كله أثره المباشر على كيفيات المعالجة، وهذا الأمر يفضي بصورة مباشرة إلى تحديد الأطر وتعيين الضوابط والمعايير. والحق أن الضوابط والمعايير التي يتناولها هذا البحث فيما سيأتي لم تكن بناء ذهنياً مفترضاً؛ وإنما تأتت بتصفح واقع التعامل مع هذا النوع من الإعجاز، ومن هذه الضوابط مراعاة قانون العربية في معرفة معاني المفردات والنحو والصرف وغير ذلك، وكذلك معرفة التناسب القرآني سواء كان هذا التناسب تناسباً داخلياً "يكمن في مراعاة النظم والسياق أو مراعاة ترابط القرآن ببعضه أو عدم المخالفة لمقاصده العامة " أو كان تناسباً خارجياً يكمن في مراعاة الأحوال والمقامات أو دقة الربط بين الحقائق العلمية والمعاني القرآنية، ومن الضوابط أيضاً مراعاة المستوى الإلهي للقرآن تجنب القضايا الغيبية التي لا يمكن أن ينالها العلم إلا إذا كانت هنالك مداخل حسية مقبولة لذلك، ومن مراعاة المستوى الإلهي للقرآن أيضاً عدم الربط بين حقائق القرآن وظنون البشر وتخميناتهم وفروضهم ونظرياتهم التي ليست لها أدلة حسية تثبتها إثباتاً قاطعاً وكذلك عدم التكلف وتقويل القرآن ما لم يقله، ومن الضوابط أيضاً عدم الاعتماد على الأحاديث الموضوعة أو روايات القصاص والإخباريين الواهية أو الإسرائيليات ونحوها، وتفصيل ذلك كالآتي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير