والحق أن كروية الأرض أمر معروف عند علماء الإسلام المتقدمين، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هنالك إجماعاً بين العلماء على هذه المسألة، وكذلك ذكر ابن حزم وابن الجوزي وغيرهم، وذكر العلماء أيضاً أن هذا الأمر يدل عليه القرآن والسنة والإجماع والحس والعقل ولا ينكره إلا العامة، ودليل هذه الكروية من القرآن قوله تعالى (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) وقد ذكر المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) والشريف الإدريسي أن الأرض كرة غير صادقة الاستدارة، وقد ذكر ذلك أيضاً ابن خلكان في كتابه (وفيات الأعيان) وابن الجوزي في المنتظم وغيرهم.
ب/ مراعاة الأحكام النحوية:-
من أهم الضوابط في معالجة قضايا الإعجاز العلمي مراعاة الأحكام النحوية التي هي قواعد توضح طريقة استنباط المعاني من الكلام العربي بصورة صحيحة، ولما كان الأمر كذلك فلابد لمن أراد تناول القرآن بالتفسير أن يراعي هذه القواعد حتى يتم استنباط المعاني بالطريقة السليمة، ولعل الذي يشتغل بالإعجاز العلمي إزاء هذه القواعد على خمس حالات هي:-
أ - أن يأخذ القاعدة المشهورة والإعراب المعروف الذي أخذ به معظم العلماء والمفسرين فيدقق في هذا المعنى ويعمقه بالاكتشافات العلمية الحديثة؛ وهذا وجه متقبّل بلا شك.
ب - أن يأتي بمعنى جديد لم يقل به أحد من قبل، ويكون لهذا المعنى تخريج آخر مشهور في النحو ولا يحالف ضوابط الإعجاز العلمي الأخرى ولا يصادم القواعد الكلية المعروفة وينسجم مع السياق ويوافق المقاصد العامة؛ فهذا أيضاً وجه متقبل وجانب من الاجتهاد ممكن.
ج/ أن يأتي بمعنى جديد له تخريج بعيد شاذ في النحو ولا يخالف الضوابط العلمية الأخرى، فهذا يجب التوقف فيه لينظر في تفاصيله؛ وإن كان إلى الرفض أقرب.
د/ أن يأتي بمعنى جديد له تخريج بعيد شاذ في النحو ويخالف الضوابط العلمية الأخرى؛ فهذا وجه مرفوض تماماً.
هـ / أن يأتي بمعنى جديد يخالف القواعد النحوية؛ وهذا الوجه يُرفض ابتداء ولا يُنظر في مخالفته لبقية الضوابط أو موافقته لها.
ولا شك أن النحو يفتح المعاني المغلقة عند الاستنباط، وهو المعيار الذي لا يُعرف صحيح المعنى المستنبط من سقيمه حتى يرجع إليه، وهو الذي يؤمّن من الخطأ إذا خاض الإنسان في التفسير وتعاطى التأويل كما ذكر الجرجاني واستنادا على علم النحو هذا فليس صحيحا ما يردده بعض الناس من أن القرآن جعل من العسل شفاء لكل الأمراض؛ إذ أنّ "التعريف" يراد به الكلية والإحاطة والعهدية؛ أما التنكير فيفيد في حكم العقل البعضية، والله تعالى قد قال عن العسل: (فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ) فنكَّر لفظ "شفاء" ولم يقل "الشفاء" حتى يدل على أن الشفاء ضروب وأنواع؛ وهو في العسل وغيره؛ وليس منحصراً بكليته فيه، وإنما العسل - كما دلت الآية - فيه بعض الشفاء لبعض العلل دون بعض، ولو قال فيه "الشفاء" لكان المعنى الذي يقتضيه العقل هو: إفادة الشمول والإحاطة؛ وليس الأمر كذلك بحال، وقد ذكر المفسرون أن لفظ (شفاء) ليس فيه عموم؛ يقول القرطبي: (ومما يدل على أنه ليس على العموم أن شفاء نكرة في سياق الإثبات ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل العلم ومختلفي أهل الأصول) فالعسل ليس شفاءً من كلّ داء كما فهم البعض من الآية؛ إذ أنه تعالى قد نكَّر لفظ (شفاء) ولم يعرفه؛ يقول ابن كثير: (قال بعض من تكلّم على الطب النبوي لو قال: فيه الشفاء للناس؛ لكان دواء لكل داء ولكن قال فيه شفاء للناس) والحق أن العسل ـ وإن لم يكن علاجا لكل الأمراض بل وقد يضر أصحاب بعضها ـ إلا أنه علاج ناجع جداً لكثير من الأمراض والعلل؛ وقد أكدت الأبحاث العلمية الحديثة فوائده في عدد من المجالات، ومن أحدث هذه الأبحاث تلك التي قام بها البروفيسور (بيتر مولان) في نيوزيلندة، وقد قضى وزملاؤه في مخابر البحث عشرين عامًا في تجاربهم العلمية وفق شروط البحث العلمي السليم ـ على العسل، وخرجوا بعشرات الأبحاث العلمية التي نشرت في أشهر المجلات الطبية في العالم، ولم يكن هو الباحث الوحيد في هذا المجال؛ فقد قام عشرات الباحثين بنشر أبحاثهم أيضًا في مجال العسل. وقد تبين أن في العسل من المواد ما يقتل الجراثيم الفتاكة وبه مقو للمناعة ويشفي بعض أمراض العيون والجلد والأسنان، وهو كذلك عامل مهم لالتئام الجروح، كما أنه غني بمضادات الأكسدة ويعالج التهاب المعدة والأمعاء.
ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[12 May 2009, 09:44 م]ـ
ثانياً: ضابط التناسب:-
من أهم خصائص القرآن تناسبه وانسجامه وارتباط بعضه ببعض، إذ ليس فيه من تضاد أو تنافر أو اضطراب أو تناقض، وهذا التناسب الذي هو سمة جوهرية للقرآن لا بد من مراعاته عند التعامل مع القرآن سواء في الإعجاز العلمي أو في غيره، ولا شك أن كل تعامل مع القرآن وأغفل هذا التناسب فإنه لا يأمن الزلل والغلط إطلاقاً، ولأجل ذلك كانت مراعاة هذا التناسب بأشكاله المختلفة من الضوابط المهمة جداً في تناول الإعجاز العلمي؛ وتفصيل ذلك كالآتي:-
¥