فقد ذكر القرطبي في تفسيره (الجامع 7/ 30) نقلاً عن الصحيحين عن ابن مسعود، لما نزل قول الله تعالى) الذين آمنوا ولم يَلْبِسوا إيمانَهم بظُلْم (الأنعام الآية /82/ شق ذلك على أصحاب رسول الله، وقالوا أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله ( e): ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه:) يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (لقمان الآية 13 وبعد أن انتقل الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، كان المسلمون يتجهون إلى كبار الصحابة والتابعين يستفسرون عن ألفاظ القرآن.
وكان بعضهم يمتنع عن القول برأيه في معاني المفردات القرآنية، فقد سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن معنى (أبَّا) في قوله تعالى) وفاكهةً وأبَّا (فقال: "أيُّ سماء تُظِلّني؟ وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم" ([5]) وتعمق الصحابة في فهم القرآن، وكان ينظر إلى عبد الله بن عباس على أنه الرائد في تفسير القرآن والبحث عن معانيه والكشف عن غريبه والاستشهاد عليه بالأشعار، مما جعل الناس تقبل عليه تسأله وتستمع إليه وهو يرد على أسئلتهم بسعة علم ورحابة صدر وكأنه يغرف من بحر، وهذا ما جعلهم يلقبونه (حَبْر الأمة وترجمان القرآن). وقد حاول نافع بن الأزرق، أن يسأل ابن عباس، فذهب مع صاحبه نجدة بن عويمر إليه فقال: "إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا وتأتينا بمصداقها من كلام العرب، فإن الله إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين. فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما ... ".
وكان من جملة ما سأله عنه نافع أن قال: "أخبرني عن قوله تعالى) جَدُّ رَبِّنا (قال: عَظَمةُ ربنا، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت:
لك الحمدُ والنعماءُ والمُلْكُ ربَّنا
فلا شيءَ أعلى منك جدّاً وأمجدُ ([6])
وهكذا راح نافع بن الأزرق يسأل وابن عباس يجيب مفسراً ومستشهداً على ما يقوله بأشعار العرب، حتى بلغت المسائل أكثر من ثمانين مسألة، سميت فيما بعد (مسائل نافع بن الأزرق).
أولاً ـ مفردات غريب القرآن:
الغريب من الكلام إنما هو الغامض والبعيد عن الفهم، أما غريب القرآن فقد قال عنه أبو حيان الأندلسي المتوفى سنة (745) هـ في مقدمة كتابه "تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب":
"لغات القرآن العزيز على قسمين: قسم يكاد يشترك في فهم معناه عامة المستعربة وخاصتهم، كمدلول السماء والأرض وفوق وتحت، وقسم يختص بمعرفته من له اطلاع وتبحر في اللغة العربية، وهو الذي صنف أكثر الناس فيه وسموه غريب القرآن".
ويلاحظ على هذه المصنفات، أنها لم تكتف بالألفاظ الغريبة، بل تعدتها إلى بعض الألفاظ المعروفة لدى عامة الناس مثل كلمة "الغَنَم" التي أثبتها الراغب الأصفهاني المتوفى سنة /502/ هـ في كتابه "المفردات في غريب القرآن". فقال: الغنم معروف، قال تعالى) ومن البقَر والغَنَمِ حَرمنا عليهم شُحومهما (الأنعام الآية 146 ([7]).
ومثل كلمة "الشجر" التي وردت في غريب القرآن لأبي حيان الأندلسي قال: الشجر في الآية
) ومن الشَّجَر ومما يَعْرِشون (النحل الآية /68/ ما قام على ساق.
ووردت كلمات أخرى معروفة مثل قمر، زوج، صيد، .... لهذا يمكن تسمية كتب غريب القرآن بأنها تفسير لجملة من مفردات القرآن وكلماته لأنها لم تقتصر على الغريب فقط.
تطور التأليف في غريب القرآن:
أول من قال بغريب القرآن هو ابن عباس، وطبع له كتاب في غريب القرآن ([8]).
كما أن مسائل نافع بن الأزرق المتوفى سنة /65/ هـ قد أُثبتت في الإتقان للسيوطي وهي مطبوعة في "شواهد القرآن" لأبي تراب الظاهري وفي "إعجاز القرآن" لعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ونشرها محمد فؤاد عبد الباقي ضمن "معجم غريب القرآن مستخرجاً من صحيح البخاري" كما ذكرت هذه المسائل في كتب تراثية أخرى، والمؤلَّفُ الثاني في غريب القرآن هو لأبي سعيد أبان بن تغلب بن رباح البكري المتوفى /141/ هـ ودوَّن شواهده من الشعر.
وهذا ما يجعلنا نقول: إن بداية تدوين غريب القرآن في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة، واستمرّ إلى العصر الحاضر، وسنكتفي بذكر نماذج للتطور في تأليف كتب الغريب.
¥