وهكذا بسَائِرِ الإنسانِ في حياتِه بالوَسوسةِ حتى يُرْبِكَه في الدنيا، ويُهْلِكَهُ في الآخِرَةِ، ولقدِ اتَّخَذَ مِن المرأةِ جِسْراً لكلِّ ما يُريدُ، وها هو يُعِيدُ الكَرَّةَ في نَزْعِ اللِّبَاسِ عن أبَوَيْنَا في الْجَنَّةِ، فيَنْتَزِعُه عنهما في ظِلِّ بيتِ اللَّهِ الحرامِ في طوافِهم قَبْلَ البَعْثَةِ، ولا يَزالُ يُغْوِيهِ، وعن طريقِ المرأةِ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ ليُخْرِجَه عن الاستقامةِ كما أَخْرَجَ أَبَوَيْهِ مِن الْجَنَّةِ.
ولا يَزالُ يُجْلِبُ على الإنسانِ بِخَيْلِه ورَجِلِه بارًّا بقَسَمِه بينَ يَدَيِ اللَّهِ بعِزَّتِه ليُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.
وإنَّ أَخْطَرَ أبوابِ الفَسادِ في الْمُجْتَمَعَاتِ لَهِيَ عن المالِ أوالدَّمِ أو العِرْضِ، كما في الحديثِ في حَجَّةِ الوَداعِ: ((أَلاَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا)) إلى آخِرِه.
وهل وُجِدَتْ جِنايةٌ على واحِدٍ منها، إلاَّ مِن تَأثيرِ الوَسواسِ الْخَنَّاسِ؟ اللَّهُمَّ لا.
وهكذا في الآخِرَةِ.
وقد بَيَّنَ تعالَى الموْقِفَ جَلِيًّا في مَقالةِ الشيطانِ البليغةِ الصريحةِ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] الآيةَ.
ولقَدْ عَلِمَ عَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ أنَّ أَخْطَرَ سِلاحٍ على الإنسانِ هو الشَّكُّ، ولا طَريقَ إليه إلاَّ بالوَسوسةِ، فأَخَذَ عن إبليسَ مُهِمَّتَه ورَاحَ يُوَسْوِسُ للمسْلِمِينَ في دِينِهم وفي دُنْيَاهُم، ويُشَكِّكُهم في قُدْرَتِهم على الحياةِ الكريمةِ مُسْتَقِلِّينَ عنه، ويُشَكِّكُهم في قُدرتِهم على التَّقَدُّمِ والاستقلالِ الحقيقيِّ، بل وفي استطاعتِهم على الإبداعِ والاختراعِ؛ ليَظَلُّوا في فَلَكِه ودائرةِ نُفُوذِه، فيَبْقَى المسلِمُونَ يَدُورُونَ في حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ يُقَدِّمُونَ رِجْلاً ويُؤَخِّرُونَ أُخْرَى.
والْمُتَشَكِّكُ في نتيجةِ عَمَلٍ لا يُقْدِمُ عليه أبَداً، بل ما يَبْنِيهِ اليومَ يَهْدِمُه غداً، وقد أَعْلَنَ عن هذه النتيجةِ الخطيرةِ رَئيسُ مؤتَمَرِ الْمُسْتَشْرِقينَ في الشرْقِ الأوسَطِ منذُ أكثَرَ مِن ثلاثينَ عاماً، حينَما انْعَقَدَ المؤتمرُ في بيروتَ لعَرْضِ نتائجِ أعمالِهم ودِراسةِ أساليبِ تَبشيرِهم.
فتَشَكَّى الْمُؤْتَمِرُونَ مِن أنَّ لهم زُهاءَ أربعينَ سَنَةً مِن عَمَلِهم الْمُتَوَاصِلِ لم يَستطيعوا أنْ يُنَصِّرُوا مُسْلِماً واحداً، فقالَ رئيسُ الْمُؤْتَمَرِ: إذا لم نَسْتَطِعْ أنْ نُنَصِّرَ مُسْلِماً، ولكن استَطَعْنَا أنْ نُوجِدَ ذَبْذَبَةً في الرأيِ فقد نَجَحْنَا في عَمَلِنا.
وهكذا مَنْهَجُ العدُوِّ؛ تَشكيكٌ في قضايا الإسلامِ ليُوجِدَ ذَبذبةً في عَقيدةِ الْمُسْلِمينَ، فعنْ طريقِ الْمِيراثِ تارَةً، وعن طريقِ تَعَدُّدِ الزوجاتِ أُخْرَى، وعن دوافعِ القتالِ، وعن استرقاقِ الرَّقِيقِ، وعن وعن.
حتى وُجِدَ مِن أبناءِ الْمُسْلِمينَ مَن يَتَخَطَّى حُدودَ الشكِّ إلى التصديقِ، وأَخَذَ يَدْعُو إلى ما يَدْعُو إليه العَدُوُّ، وما ذاك كُلُّه إلاَّ حَصَادُ ونتائجُ الوَسواسِ الْخَنَّاسِ.
فلا غَرْوَ إذنْ أنْ تُجْمَعَ الصفاتُ الْجَليلةُ الثلاثُ: ربُّ الناسِ، مَلِكُ الناسِ، إِلَهُ الناسِ.
هذه وِجهةُ النظَرِ الأُولَى بينَ سُورَتَيِ الفَلَقِ والناسِ.
أمَّا الوِجهةُ الثانيةُ وهي بينَ سُورَةِ الناسِ ونَسَقِ الْمُصْحَفِ الشريفِ بقَوْلِه تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 1 - 7].
¥