ومن مظاهر النقص في منهج التحقيق هنا أن المحقق وقد أفرد مجلداً يقع في (500 صفحة) وجعله مقدمةً ودراسةً للتفسير ومؤلفه = لم يذكر شيئاً عن مخطوطات الكتاب , وإنما أخبر بقصة وقوفه عليه ورجوعه إلى بعض فهارس الكتب والمخطوطات لإثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه , ثم في مقدمة الجزء الأول من التفسير ذكر باختصار هذه المخطوطات مع صورٍ قليلة منها , وقد اجتنب في تصوير النسخة الثالثة ما يشير إلى اسم الطبراني الذي كتبه الناسخ في مواضع عديدة منه. كما خلا هذا العمل من المقارنة بين النسخ الثلاث , وهي مرحلة لازمة من مراحل التحقيق , وأولى منها وألزم أن يحدِّد أيَّ نسخة منها هي المعتمدة في العمل , والمقدمة في الإثبات , وهذا ممَّا أغفله المحقق أيضاً فظهر أثره في مواضع لم تخلُ من سقط وتصحيف (9) , ولا أدري ماذا بقي للمحقق ليعمله بعد ذلك؟! فإن أعظم جهد المحقق إنما يصرف في ذلك , وهذا هو معنى اسم "التحقيق".
- وأمَّا محقق تفسير الطبراني فقد ظهر من استعجاله في نسبة هذا المخطوط إلى الطبراني دون تثبتٍ كافٍ , ومن عدم احتفاله بكثير من الإيرادات التي أوردها جملةٌ من الفضلاء على هذه النسبة , ومن التمَحُّل في الإثبات بما لا دليل فيه , ومن القطع في مقام الاحتمال , ومن المغالطة في الرد = ما جعل عمله هذا مثالاً لعدم التوفيق , ولتحقيقٍ يحتاجُ إلى تحقيق.
وفي سقوط هذا العمل من أصله ما يغني عن تعداد المآخذ المنهجية عليه مع كثرتها وظهورها , إلا أن ما لا ينبغي إغفاله من ذلك أمرين:
أولهما: الغفلة الظاهرة عن اعتبار منهج العلم والتأليف في زمن الطبراني رحمه الله , وكذا الغفلة عن منهج الطبراني نفسه في تآليفه , فواقع هذا التفسير لغةً وأسلوباً لا يمكن انطباقه على ذلك الزمن , وعلى تآليف الطبراني المحدِّث على الخصوص. واعتبار زمن التأليف وثقافة المؤلف ومنهج الكتابة في زمنه من الشروط الواجب اعتبارها في التحقيق.
ثانيهما: تجاهل النقول الوافرة عمَّن عاشوا بعد زمن الطبراني بسنين وبعضهم بقرون؛ ففيه النقل عن أبي الطيب سهل بن محمد العجلي الحنفي (ت404هـ) , والإمام الثعلبي المفسِّر (ت427هـ) , واللغويّ أبي منصور الثعالبي (ت430هـ) , والفقيه الحنفي عبدالصمد الغزنوي (ت723هـ) , وحين حاول المحقق إصلاح ذلك أتى بشرٍّ ممَّا ترك , فجعل من مات بعد الطبراني بخمسين أو سبعين سنة معاصراً له , وجعل من ذُكِرَ بعد ذلك - كالغزنوي – ممَّا أقحمه الناسخُ في النص , فحذفه من النص , وأشار في الحاشية إلى أنه من تَصَرُّف الناسخ؛ لأنه ليس من أسلوب المصنف , وقد بلغ ما حذفه في إحدى المواضع عشرة أسطر (10) , وفي موضع آخر حذفه منه فأفسد المعنى , ولم يُشر إلى ما فعل (11) , واعجب لهذا الصنيع! إذ كيف يأتمنُ المحققُ الناسخَ على اسم المخطوط وهو أجل خطراً , وأعظم أثراً , ولا شيءَ يعضده , ثم لا يأتمنه على النص , ويتهمه بالزيادة فيه بلا دليل؛ إلا أن النص المذكور لا يوافق ما بنى عليه المحقق عمله , فلابد من التصرف فيه ولو بتحميله للناسخ.
إن كُلَّ كلمة في النص المخطوط أمانةٌ بيد المحقق , والمحقق الأمين لا يجرؤ على تضييعها , وإن الرغبة المُلِحَّة في إخراج تراث أئِمَّتنا الجليل , لا تكفي دافعاً ولا شافعاً في الإعراض عن أصول التحقيق وآدابه المعتبره , ومن عانى التحقيق وخبره يعتصره الأسى ممَّا يرى من تتابع من ليس من أهله عليه , وجرأتهم على اقتحامه , وكم لهم في شكوى هذا الصنف من آهات مسطورة (12).
على أن ذلك لا يثني الجادين في فن التحقيق وأهل التخصص من أن يؤدوا حقَّ العلم عليهم , ويظهروا ما خفي من آثار أسلافهم , ويبذلوا في ذلك غاية جَهدهم , مُتحَلِّين بأصول هذا الفن وآدابه , فهناك يُحمَد كل جُهد , ويُثمِر كل أَثَر , ويُعذَر من لم يوَفَّق.
¥