وبعد هذا التقابل غير المتكافئ يشرع هؤلاء قي الدفاع عن هذا التوحه، فيسوون بين النصوص، كحال الغرب الذي لا يميز بين النص الديني، وغير الديني. فمنذ أن نزل القرآن إلى البشر أصبح نصاً تاريخيا، ً لأنه تحول من كتاب تنزيل إلى كتاب تأويل، فأصبح كتاباً بشرياً " تاريخياً واجتماعياً وتراثياً. إن كتاب التنزيل طلق كتاب التأويل وأحدث معه نمطاً من القطيعة الإبستمولوجية النسبية وتحول "" النص منذ لحظة نزوله الأولى - أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي - تحول من كونه نصاً إلهياً، وصار فهماً " نصاً إنسانياً " لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل.
مفاد هذا التوجه عند الهرمنيوطقيين أن النص بمجرد أن يكتب يصبح ملكا للقارئ، وليس للمؤلف، وإن القارئ هو الذي يضفي عليه المعاني المناسبة وهو صاحب القصد.
وفي هذا الاتجاه فإن الغرب يميز في هذا الاتجاه وغيره خاصة التفكيكي بين المكتوب والمسموع، يقول أركون وهو يدعو إلى إعادة ومراجعة قضية تدوين المصحف:" ... لأن الخطاب الشفهي له قواعده اللغوية الخاصة للتحليل، وللدلالات قواعد خاصة للتفسير مغاير للقواعد التي تدل على الخطاب، إذا كان مكتوبا، لا ترى الأيدي تتكلم، كما تتكلم يداي الآن وأنا أكلمك، ووجهي يكلمك، وصوتي يكلمك، عندما يرتفع وينخفض، هكذا هو ولكن الناس يخلطون".
والمكتوب لا علاقة له بمن كتبه لأن الكتابة تحول المنطوق إلى مقروء، والقراءة له شروط مخالفة للمنطوق، كما أن النص لم يعد مملوكا لصاحبه بل يصبح ملكا للقارئ.
ويقول حسن جابر في مقالة له بعنوان "تصور منهجي لفهم القرآن الكريم":"لكن الثابت في علاقة النص الديني، بالنص البشري، أنه يمكن كلاهما أن يخضعا لمنهج واحد، هو منهج التأويل القائم على تفكيك المعنى، وفتح مدايات واسعة أمام إمكان المعنى، وكلاهما أيضا، يمكن أن ينفعلا في حركة كشف المعاني بألوان التفكير وأفق ووعي القارئ، فمن الثابت، لدى جميع من اشتغل في علم النص، أن ثمة علاقة بين القارئ والنص، لا يستطيع أحد إنكارها، حيث الإقرار بأنه لا وجود للمعنى إلا في الوعي البشري، الذي هو نسيج من الأهواء والتقاليد والانفعالات، والمؤثرات واللون الثقافي والحضاري، ويستوي في ذلك قارئ النص الديني والنص البشري، فكلاهما يحضران في عملية تناسل المعاني". هذا الكلام ينفي المعاني القرآنية ويجعل القرآن الكريم نصا لغويا يستخرج منه القارئ المعاني، عن طريق عملية التأويل وهذا مخالف نسبة القرآن الكريم لله عز وجل صراحة.
إن مثل هذا الكلام، حصل بعد أن انهارت قداسة الكتاب المقدس في الغرب، وتخلى الغربيون عن الإيمان بهذه القداسة بعد عصر النهضة، وتفاقم الشك والإلحاد، فأصبح الكتاب المقدس كأي كتاب أدبي آخر يُدرس من منظور إنساني دون أي اعتبار للبعد الغيبي الإلهي.
فقد صار التأويل "لعبة لغوية" -يقول أمبرتو إيكو- بما أن البحث عن مقاصد المؤلف تحول إلى قراءة للنص اللغوي في ذاته (مقاصد النص)، ثم صار الأمر إلى القارئ نفسه يشحن السياق بمقاصده، ويسقط مفاهيمه على النص.
ولم يحصل مثل هذا في الثقافة الإسلامية، فعلى أي أساس تبني المقارنة، بل إن اغتراب الذات عند الغربيين يقابله نقاء وصفاء ووضوح في معرفة الذات ووظيفة الذات. بمعرفة المقصد الأسمى من الوجود، ولذلك ظلت الذات المسلمة تحتهد وفق مكر مقاصدي أساسه العبادة، وثماره الاستخلاف.
التاريخية والفهم:
يعتبر غادامير الوعي التاريخي مكتسبا من مكتسبات التجربة الإنسانية، لأنه موجه لفهم الذات وذاتية الفهم، لأن الوجود التاريخي يختزن معايير عالمية للحياة العملية.
المنهج التاريخاني الذي يعتبر أن تفسير النص يجب أن يكون مرهوناً بتاريخه، ويجب أن يكون ساكناً هناك لحظة ميلاده، فلا يمكن فصل أي نص عن تاريخه. فغادامير يرى بأن الفهم فعل تاريخي، بمعنى أن النص لا يفهم إلا في سياق متطلبات العصر، ولهذا فإن الفهم يرتبط دائما بالزمن الحاضر، لأن تاريخية انتساب الإنسان إلى الزمان والمكان تهيئ له القدرة على الفهم الأفضل، عوضا أن تكون هي العائق في تعطيل عملية الفهم. بل على الذات أن تكشف عن حدود المعرفة التاريخية في الممارسة التأويلية، لكن هذه الأحداث يجب أن تؤول وفق واقع المؤول، ولشدة الربط بين الذات وتاريخها يعيب غادامير على الإنسان الذي يعيش دون وعي لتاريخه.
¥