إن القول بتاريخية النصوص أفضى إلى القول بالتفسير التاريخي للقرآن بأن عدت التعبيرات في القرآن "موافِقة لظروف معيشة وأفق محمد (صلى الله عليه وسلم) ومستمعيه الأوائل، لكنها لم تعد تتوافق مع ظروف معيشة وأفق قارئ اليوم الحضاري.
إن القول بالتاريخية يعني نفي صفات الخلود وصلاحيته لكل زمان ومكان، وأنه نص غير مساير للحياة، وهذه دعوة صريحة إلى إزاحة القرآن الكريم عن الحياة، وإبعاده عن كل تشريع وتوجيه.
إن الكتاب الخالد الذي جعله الحق سبحانه وتعالى خاتم الرسالات والهادي إلى الحق إلى يوم الدين، وهذا أصل الاعتقاد يتحول عند هؤلاء كتابا تاريخيا على الرغم من أن الأدلة العلمية أثبتت أنه المخبر عن العالمية والاستمرارية. وأن صفة الغيب التي يختص بها ويتميز بها عن غيره ستزول بصفتي البشرية والتاريخية وهذا مناف لصفته الوجودية.
اللغة والتأويل:
هذا العنصر من أخطر المباحث الهرمنيوطيقية لأن كل ما سبق وما يمكن أن يذكر في هذا الاتجاه يبني عليه ومؤسس به، اللغة لم تعد نسقا، ولا بنية ولا نظاما من العلامات، وليست دالا ومدلولا، العلاقة بينهما اعتباطية، وظيفة اللغة ليست التواصل. لم تعد اللغة وسيلة للإبلاغ، ولا وسيلة الفكر، باختصار لم تعد اللغة أداة يستعملها المتكلم كيف ما شاء ومتى شاء. ولا ألفاظا حاملة للدلالات.
إن اللغة أصبحت علامات ورموزا، تتحول معانيها، حسب القارئ بما يحملها من معان ناتجة عن مخزونه الثقافي، يناسب ما يحمله القارئ النص.
لقد جعلت الفلسفة التحليلية كل شيء يتم باللغة وعبر اللغة.
وإذا كانت بداية الحديث عن اللغة باعتبارها رموزا، فإن الرمز سيأخذ بعدا تصويريا حيث إن العلامات و الرموز تشكل عالما موازيا للعالم الخارجي هو ما يمكن تسميته بالنظام اللغوي الرمزي، بل يصبح بديلا للأشياء المادية، نحن إذن لا نتعامل مع الأشياء والموجودات كما هي، بل كما يحددها النظام اللغوي، وهنا ستصبح اللغة تصويرا للواقع، وفي هذه الحال تصبح الكلمات تعبيرا عن الأشياء، وسنقف عند حدود الألفاظ لتصوير عالم الأشياء.
التوجه في الهرمنيوطيقا يتجاوز هذا التحليل وينظر إلى اللغة نظرة وجودية مما جعل قضايا الفلسفة ليست قضايا واقعية factual، بل لغوية في طبيعتها.
فكيف سينظر أصحاب هذا الاتجاه للغة؟
يقول نيتشة: "إننا نفكر داخل اللغة. ولا يحصل لنا الوعي بأفكارنا المحددة الواقعية إلا عندما نمنحها شكلا موضوعيا، ونفصلها بذلك عن حياتنا الداخلية، ونضفي عليها شكلا خارجيا، ولكن هذا الشكل ينطوي بدوره على خاصية من خصائص الأنشطة الذاتية الداخلية، وإنه لمن من العبث أيضا أن نعتبر احتياج الفكرة للكلمة عيبا أو نقصا فيها. يعتقد عادة، وهذا الاعتقاد وارد بالفعل، أن أكثر الأشياء سموا هي الأشياء، التي يتعذر التعبير عنها. ولكن هذا الرأي سطحي ولا أساس له من الصحة. والواقع أن ما لا يمكن التعبير عنه هي الفكرة الغامضة، الفكرة التي لا زالت في طور الاختمار، والشيء الذي لا يصبح واضحا إلا بعد أن يجد الكلمة المناسبة للإفصاح عن نفسه. وبالتالي فإن الكلمة هي التي تمنح للفكرة وجودها الحقيقي الأكثر سموا. لقد اعتبر نيتشة أن الفكر يتم داخل اللغة، وأن اللغة وحدها، هي التي تمنح للفكر وجوده، هذا التصور سيعتمده هيدغر بشكل موسع وسيعتبر اللغة مسكنا للوجود، ولذلك لا شيء يتم خارج اللغة، يقول توفيق سعيد: "إن ماهية اللغة عند هيدجر تكمن في كونها كشفا أو إظهارا للوجود، واللغة تكشف الوجود عندما تظهر الوجود الإنساني والموجودات الفردية من خلال تحجبها. فكيف يتكشف الوجود على هذا النحو في اللغة؟ لنستمع إلى هيدجر ... فاللغة وحدها تجلب ما يكون - باعتباره شيئا ما يكون أي تجلب ماهية شي ء ما، إلى المجال المفتوح لأول مرة. فحيث لا تكون هناك لغة، كما هوا لحال في وجود الحجر والنبات والحيوان، لا يكون هناك أيضا انفتاح لما يكون (أي لماهية شيء ما) ... ومن خلال تسمية الموجودات، لأول مرة تجلب اللغة الموجودات ابتداء إلى الكلمة والى الظهور".
ويعتبر غادامير الفهم كله تأويل والتأويل كله يحدث بواسطة اللغة التي تسمح للموضوع بأن يحل في جسد الكلمات. ونجد أن البرهان ينطلق هنا من مقدمتين منطقيتين: 1 ـ الفهم كله تأويل. 2 ـ التأويل كله لسانيّ.
¥