لقد عاب غادامير على المفسرين السابقين اعتمادهم ما سماه بـ"الإحلال اللغوي" حيث لا يتجاوز المفسر، إحلال كلمة محل كلمة أخرى، يقول سعيد توفيق:" إن اللغة عند غادامير ليست ألفاظا، أو تعبيرات لفظية، يمكن أن تحل إحداهما محل الأخرى، على أساس افتراض نوع من التكافؤ القائم بينها، بل هي كيان متفرد من التركيب اللغوي، والأسلوب التعبيري، أو القدرة على الخطاب والإيحاء"
إن اللغة لم تعد ألفاظا تحمل دلالات بل رموزا وإيحاءات، بل إن الدلالة اللغوية للفظ أصبحت تمثل عائقا أمام كشف المعنى لأن:" النسق الرمزي ( Allegorical) للنصوص على قبلية أن لغة النص تبتعد عن لغة التحاور الدارجة، وتتلبس أغلفة كنائية رمزية متكاثفة، لذا يجب التوغل إلى المعاني الحقيقية الكامنة وراء هذه الرموز والتمثيلات، ولا يتعذر على المعاني الظاهرية للألفاظ تقديم العون لنا في استكناه المعنى الحقيقي وحسب، بل تمثل معوقات تعرقل جهودنا في هذا السبيل"
هكذا لم تعد الألفاظ في اللغة قوالب للمعاني، وإنما أصبحت الألفاظ رموزا وكنايات، يحملها القارئ أو المستعمل ما يريد من المعاني، وأصبحت الحقائق القرآنية أمثال رمزية وليست حقائق تاريخية حكاها القرآن الكريم من أجل الاعتبار بالأساس ومن أجل تصحيح مسار الحياة وفق إتباع المنهج القرآني في الحياة، إن تغيير كل ما أخبر عنه القرآن الكريم بصريح العبارة وليس من باب التأويل كما يفعل هواة التجديد، يعد مخالفا للحقيقة العلمية.
ومن باب المخالفة العلمية الصريحة مخالفة آيات البيان القرآني الذي أخبرنا الله عز وجل أن وسيلة القراءة تبتدأ من اللغة المبينة، ولعل الوصف الكريم للقرآن المجيد: (كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا) أنسب إلى الفهم حول اللغة التي نزل بها، فقد ربط بين العربية والعلم والإنذار، وهذا الربط بين العربية المبينة والعلم والعقل يتكرر في كتاب الله، في آيات كثيرة ففي سورة يوسف مثلا يقول الحق سبحانه وتعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن) وقد تكررت الآية في سورة الزخرف الآية 2.
ولعل الآية الكريمة الواردة في سياق ضرب المثل تجيب عن كل ما يجوز أن يتبادر إلى الذهن من فصل بين عربية القرآن الكريم المبينة وبين قراءة القرآن الكريم وفق شروط هذا البيان، فقد ذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي: هو قرآن بلسان عربي مبين، لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس، بل هو بيان ووضوح وبرهان.
أليس ما يدعيه هؤلاء من أن لغة القرآن الكريم إيحائية وأن القرآن الكريم ذو طبيعة بشرية هو ما نفاه الحق سبحانه وتعالى في آيات كتابه المنزل: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين).
إن الربط بين البيان والوضوح والإفصاح هو ما عمل العلماء على إنجازه طيلة التاريخ الإسلامي، وانتهوا إلى تقرير الحقيقة التي خلدت معاني القرآن الكريم ومازالت تظهر كل يوم مظاهر خلود وإعجاز هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل، لأنه محفوظ بالعناية الإلهية.
هذه الحقيقة عبر عنها علماء الأصول أحسن تعبير وهي:
هذه الشريعة عربية فعلى أسلوب العرب تفهم، وأسلوب العرب بيان وإفصاح ووضوح، وليس غموض والتباس وتعقيد.
ولعل كلام الشاطبي:"إنما البحث المقصود هنا- يقصد بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام – أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلب فهمه إنما يكون من هذه الطريق خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) وقال: (بلسان عربي مبين) وقال: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) وقال: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي) إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب، لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم، فمن أراد تفهمه، فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة"
أحسن ما يرد به على ما ورد في حق لغة التنزيل.
وختاما، فلا بد من ضرورة البحث في جملة من الدراسات الواردة حول الإنجيل عند المسيحيين، وما يكتنفه من غموض، وإبهام ومقابلتها بالدراسات القرآنية حول البيان والوضوح ليتضح فساد تطبيق الاتجاه الهرمنيوطيقي على النص القرآني.
¥