تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لا يعني كلامنا أبداً فتح الباب لكلّ من هبّ ودبّ، فالفهم الصحيح له قواعده وله أصوله، ولا يستطيع أحد معه مسكة من عقل أن يجعل الأمر نهباً لكلّ أحد، وهذا الأمر -أعني التفسير- هو ككلّ أمور الحياة العلمية لا يمكن للمرء أن يصيب مراده إلاّ بقواعد وأصول صارمة، ولكنّ الحديث هنا ليس عن الخطأ والصواب في مسألة علميّة وفهم مراد الربّ منها، ولكن حديثنا عن الحق ّالمطلق لكلّ عالم أن يأخذ حظّه من كتاب الله تعالى في أيّ مسألة من نواحي الحياة ودروبها سواء كانت علميّة أو عمليّة، وأن يكتبها على أيّ وجه كان ملتزماً بالقواعد الصحيحة، والأصول العلميّة الواضحة. فإنّ كتاب الله تعالى هو كتاب هداية لكل مناحي الحياة، وكتاب بصيرة لكلّ مشكلة، وكتاب علاج لكلّ طوارق الدروب، فالناس نوازعهم شتّى، وظروفهم مختلفة، وميولاتهم متعدّدة، وكتاب الله تعالى يقوم لذلك كلّه.

هذه وغيرها إن أقررنا بها علمنا خطأ من أغلق باب الفهم عن الله في كتابه، وانحراف زَعْم من زَعَم أنّه «ما ترك الأوّل للآخر شيءاً»، فإن كان القرآن قد توقّف نزوله بموت النبيّ صلى الله عليه وسلم ولحوقه بالرفيق الأعلى، ونحن نعلم أنّ ما عند الله خير لرسول الله ?، لكنّنا نجزم أن تنزلات الرحمة والفهم ستبقى ممدودة موصولة بين السماء والأرض ما دام القرآن بين أيدي المؤمنين به، يقرؤونه ويتذوّقونه، فتبكيهم آياته، وتزيدهم هدى فوق هداهم، وتفتح عليهم من المعارف والمعاني ما يحمدون الله تعالى عليها. ولهذا سيتجدّد في الناس من يصرخ صرخة سيّد قطب حين قال: «لقد وجدّت القرآن». أو يقول ما قاله والد شاه ولي الله الدهلوي لابنه: " يا بنيّ، اقرأ القرآن وكأنّه عليك ينزل ".

نعم هذا النوع من البيان ليس هو من النوع الواجب، بل قد يمنعه أقوام بحجّة ذاتيّته، والناس يريدون من المفسّر فهم الموضوع مجرّداً لا دخل للمفسّر ولا لمشاعره ولا لعواطفه، وأنا أظنّ أن هذا الفصل بين الذاتيّة والموضوعيّة ضرب من الخيال الذي لا وجود له، فإنّ انتقال القرآن من كونه نصّاً تكلّم الله به إلى تفسير مسلم موحّد له بلفظه وعبارته سيكون المزج تماماً بين الكلام والأثر، أي بين كلام الله تعالى وبين الهداية الحاصلة في القلب والعقل، فمن أراد قراءة النصّ والكلام وحده فلن يمنعه أحد، بل هو الأصل والمطلوب من كلّ مسلم، ولكن حين تطلب تفسيراً فإنّك تطلب أثر هذا النصّ على إنسان بعواطفه ومشاعره وعلومه ومعقولاته، فهاتان قراءتان لكلّ منهما ظروفها وأهدافها. ولعلّنا نحبّ كثيراً أن نقرأ ما في نفوسنا من كلام الآخرين، وحين يتمّ التطابق بين المقروء وبين ما في نفوسنا سنصرخ بكلّ جوارحنا: هذه والله هي البلاغة، وهذا هو تعليم الله لعباده أو كقول القدماء: «للّه درّك! لقد أتيت على ما في نفوسنا». فجلال المعنى الحاصل في النفس ووضوحه وتبيّنه هو الذي يعطي للكلمة جمالها، ويحبّب للنّاس سماعها، وهذا هو الذي يُطرب له ويُصغَى له ويعلم الناس أنّه ذوّاق رفيع النفس، أديب العقل والقلب، يفهم عن نفسه فيفهم الناس عنه.

قال عبدالقاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز: «خبّرنا عمّا اتّفق عليه المسلمون من اختصاص نبيّنا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى: غير أنّه لا يزال البرهان منه لائحاً، معرضاً لكلّ من أراد العلم به، وطلب الوصول إليه، والحجّة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها، والعلم بها ممكناً لمن التمس؟ فإذا كنت لا تشكّ في أنّه لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلاّ أنّ الوصل الذي له كان معجزاً قائماً فيه أبداً، وانّ الطريق إلى العلم به موجود، والوصول إليه ممكن، فانظر أي رجل تكون إذا أنت زهدّت في أن تعرف حجّة الله تعالى، وآثرت فيه الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على عدم وجودها. وكان التقليد فيها أحبّ إليك، والتعويل على علم غيرك آثر لديك، ونحِّ الهوى عنك، وراجع عقلك، واصدق نفسك، تبين لك فحش الغلط فيما رأيت، وقبح الخطأ في الذي توهّمت، وهل رأيت رأياً أعجز، واختياراً أقبح: مِمَّن كره أن تعرف حجّة الله تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور وأبهر، وأقوى وأقهر، وآثر أن لا يقوي سلطانها على الشرك كلّ القوّة، ولا تعلو على الكفر كل العلوّ؟ والله المستعان». اهـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير