تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فهذا هو والله المراد من كتاب الله ومن تلاوته وتدبّره؛ راحة نفسيّة، ومعاني شريفة، واطمئنان بال، وذهاب همّ، ومتعة تذوّق. قال تعالى {الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرُّ منه جلود الذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد} [الزمر: 23]. فجعل سبحانه آثار هذا القرآن على القلب والنفس و البدن هي الهداية ومن لم يجعل له شيء من ذلك أو بعضه فهو على طريق الضلالة، ولقوّة هذا السبب في تحصيل هذه الآثار فإنّ غيره إن كان فيه هذه الآثار وله القدرة على تحصيلها فهو من مشكاته صادر، وهو أضعف ولا شكّ من الأصل، فمن لم يهتدِ به فهو عن غيره أبعد، وهذه الآية قالها الربّ عقب قوله {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} [الزمر: 22].

فهداية الله لعبيده إلى الإسلام وشرح قلوبهم له إنّما طريقه هو هذا الشعور النفسي والقلبي لهذه الكلمات الربّانية الجليلة. فالحديث عن هذه المشاعر وهذه المعاني القلبيّة هو حديث عن مقصد القرآن وهدفه ومراده، وهو أجلّ أنواع التفسير بالرأي، وهو ليس بدعاً من القول، ولا بالطريقة المحدثة فيما يزعم من لا بصر له بأقوال السلف وعباراتهم، نعم لم يكونوا يطيلون التقرير لمثل هذه القضايا، إذ يرون أنّ الرواية أجلّ من الدراية (وهذا حقّ)، ولكن مع هذا كلّه فخذ ما يشفي غليلك ويروي ظمأك.

قال الباقلانيّ في إعجاز القرآن:

" فالقرآن أعلى منازل البيان، ... وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكّن في النفوس ما يذهل ويبهج، ويقلق ويؤنس، ويطمع ويؤيس، ويضحك ويبكي، ويحزن ويفرح، ويسكن ويزعج، ويشجن ويطرب، ويهزّ الأعطاف، ويستميل نحوه الأسماع، ويورث الأريحيّة والعزّة، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجوداً، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمىً بعيداً، وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة ". ا. هـ

فانظر إلى كلام هذا البيانيّ الفحل كيف فسَّر قيمة الكلام وأهمّيته، وكيف جعله عظيماً عالياً، فالكلام العالي هو الذي يحدث آثاره على إرادات الإنسان وقراراته وتصوّراته، فيأسر سامعه، فههنا تكمن قيمة الكلام وأهمّيته أوّلاً، نعم عظمة القرآن ليس في هذا الباب فقط، لكنّه الباب الأوّل الذي لا تقوم بقيّة الأبواب إلاّ به، من علومٍ ومواعظ وحقائق ونبؤات وترغيب وترهيب ووعد ووعيد، لكن كلّ هذه وغيرها من مقاصد القرآن مطويّة في داخل ما تقدّم، وبهذا تعلم أن الحديث عن هذا الجانب هو حديث عن القرآن، وتفسير له، حتّى لو رأيت إعراض الناس عنه، أو كثر لديك كثرة الشاتمين له: إذ همّهم أن يقفوا مع الحرف، أو يهيموا في الأطر القديمة، ومن هنا كان إعراض من أعرض عن تفسير سيّد قطب في كتابه «في ظلال القرآن» إذ لم يروا فيه الأبحاث التي اعتادوا أن يروها في الكتب القديمة، فأخطأوا ولم يصيبوا.

حين يقرأ المؤمن كتاب الله فيأسره، ويتخلّل قلبه وروحه ومشاعره، فيرتقي معه في درجات الصفاء والنور والحقّ، فما يخرج منه حينئذ من عبارات (إن كان صاحب عبارة) هو تفسير لكتاب الله تعالى، وكشف لبعض جوانب الحقّ والنور فيه، وحينئذ يكون ولا شكّ مع واقعه الذي غُيِّر وبُدِّل عن فطرة الله تعالى وأعرض عن شريعة الرحمن، آمراً وناهياً، مصلحاً ومقوّماً، فسيدخل ولا شكّ مع القسم الثاني في التأليف الذي ذكرناه في أوّل المقال.

فالمصلح الحقيقي هو من انطلق من كتاب الله تعالى، قرأه فارتقى به، وانفعل معه، فأسرته الكلمة؛ وقهرته وحكمت على مشاعره وعلى جوارحه، فتحوّلت هذه المشاعر والمعاني إلى قذائف حقّ ضدّ الباطل الذي تهوي به البشريّة في جاهليّتها. فهذا هو المصلح الذي بدأ مع القرآن ويسير معه ويموت من أجله. قال تعالى {أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون}.

هذا أوّلاً ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير