أمّا ثانياً .. فإنّ كتاب الله تعالى لا يمكن أن يعطي آثاره كاملة ويحدث هذه المشاعر والمعاني حتّى يكون قارؤه ذوّاقاً للكلمة، عالماً بها، يحسّ بجرسها على نفسه وعقله، فإنّ ما يميّز الإنسان على العجماوات هو البيان وهو سرّ الله في خلقه {الرحمن خلق الإنسان. علّمه البيان} فإنّ من رحمة الله تعالى على الإنسان أنّه خلقه على هذه الهيئة القويمة الحسنة، وإنّ أعظم منّة على إنسانيّة هذا الإنسان بعد حسن الخلقة هو البيان، هذا في أصل الخلقة، وأمّا حين كان الأمر متعلّقاً ببداية المنّة الإلهيّة بالهداية والإرشاد فإنّ الله تعالى ذكر منّة «القراءة» وأداتها القلم. {إقرأ وربّك الأكرم ... الذي علّم بالقلم}. فالإحساس القويّ بالكلمة هو الذي يحفظ لهذا الإنسان إنسانيّته. قال الشيخ الإمام محمود محمّد شاكر: «كلّ حضارة بالغة تفقد دقّة التذوّق تفقد معها أسباب بقائها، والتذوّق ليس قواماً للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضاً قوامٌ لكلّ علمٍ وصناعة -على اختلاف بابات ذلك كلّه وتباين أنواعه وضروبه- وكلّ حضارة نامية تريد أن تفرض وجودها وتبلغ تمام تكوينها، إن لم تستقلّ بتذوّق حسّاسٍ حادٍّ نافذٍ، تختصّ به وتنفرد لم يكن لإرادتها في فرض وجودها معنىً يُعقل، بل تكاد هذه الإرادة أن تكون ضرباً من التوهّم والأحلام لا خير فيه، فحسن التذوّق يعني سلامة العقل والنفس والقلب من الآفات» [أباطيل وأسمار، 134]. فتذوّق الكلمة الآسرة هو سرّ التفسير الأسير الصادق، والكلمة العربيّة لها ذوقٌ خاصّ بجرسها ودلالاتها، ففيها سحرٌ خاصّ قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من البيان لسحراً». وهذا سرٌّ من أسرار العربية تتميّز عن غيرها به، والعربيّ الأوّل لمّا كان ذوّاقاً للكلمة، عالماً بها، ملكت عليه حياته كلّها، فعماد حياته: عطاء ومنح، حرب وسلم، حبّ وبغض، ولاء وبراء .. كان مبناه على الكلمة، والتي هي أداة الإبانة عن النفوس، والقرآن كلام الله تعالى أبان لنا به عن نفسه، وفضل كلامه على كلام غيره كفضل الله على خلقه، فهو كلام عالم حكيم رحيم متكبّر، وكلامه هو إبانة لمقتضيات هذه الصفات الحسنى الجليلة، فحينئذٍ سيكون في كلامه جلّ جلاله: جليل المعاني وعظيم الغايات وأشرف الهدى، وسيكون فيه الحقّ الذي يطمس كلّ باطل، والنور الذي يذهب كلّ ظلمة، ولا يمكن لأحد أن يعرف ذلك حقّ معرفته إلاّ إن كان الناظر فيها، التالي لها ذوّاقاً لهذه الكلمات، وكلّما ازداد المرء بصيرة بهذه الكلمات كلّما ارتقى في درجات العلم بهذا الكلام.
قال تعالى: {الله نزّل أحسن الحديث}.
وهذا التذوّق لا يصنع رذيلة كما يفعل ذائقو الرجس الحرام، إنّما هو ذوق يصنع ملكات الخير والفضيلة، ولذلك حُقَّ لمن تذوّق الكلمة أن يُسمّى في لغتنا «أديباً»، وعلى هذا فمن تذوّق هذا الكلام الحسن، وسرى في نفسه وقلبه وعقله، فإنّه ولا شكّ سيرتقي في أعمال الخير، وستسمو نفسه معه، وهذا فرقٌ بين أمّتنا وبين غيرنا، فأنت ترى ذواق الكلمة عندنا وفي تاريخنا هو الرجل الملتزم، فهو مثال لكلمته، وحقيقة لصورة عبارته. قال أستاذ العصر وجاحظ الوقت وأديب العربيّة؛ مصطفى صادق الرافعيّ: «والعجب الذي لم يتنبّه له أحد إلى اليوم من كلّ من درسوا الأدب العربي قديماً وحديثاً، أنّك لا تجد تقرير المعنى الفلسفيّ الاجتماعيّ للأدب في أسمى معانيه إلاّ في اللغة العربيّة وحدها، ولم يغفل عنه مع ذلك إلاّ أهل هذه اللغة وحدهم!» [وحي القلم]
ففقه المرء للقرآن يُعرف حين تظهر آثار هذا القرآن على نفس الإنسان وعلى خُلقه وعلى سلوكه كما هو شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كما وصفته عائشة رضي الله عنها: «كان خُلقه القرآن». وكلّما ازداد المرء تذوّقاً لهذا الكلام الحسن كلّما ازداد قرباً من عبوديّته لهذا المتكلّم الجليل.
وهناك فرق بين التذوّق الفطري وهو المقصود به في القسم الأوّل وبين هذا التذوّق، وهو القائم على الأصول والقواعد والفهم والفقه، فالأوّل في داخل كلّ إنسان وهو يقع عن طريق الفطرة وإحساس المرء بإنسانيّته، أمّا هذا فهو لا يقع إلاّ بالفقه والتبصّر والإدراك والنظر المتوالي مرّة بعد مرّة في داخل كلام الله تعالى حتّى تعلم ما يريد، وتفقه على الله تعالى خطابه فتخرج منه باللآلي والدرر ومعالي العلوم والمعارف، ولهذا التذوّق أدوات أعظمها هو فقه اللغة التي نزل بها كلام الله تعالى ومعرفة الأصول والإحاطة بالسنن الشارحة لهذا الكلام.
فهذان أمران أخي المسلم كُنْ على ذكرهما وأنت تقرأ كلام الربّ العظيم، أمّا الأمر الأوّل:
فهو الذي يكشف لك ربوبيّة المتكلّم، وهو أمر تحسّ به ضرورة شئت أم أبيت، أمّا الثاني: فهو الذي يجعلك متألّهاً لهذا الإله العظيم.
قال تعالى: {الله نزّل أحسن الحديث}.
قال النابغة الجعديّ:
أتينا رسول الله إذ جاءه بالهدى ويتلو كتاباً كالمجرّة نيراً
بلغنا السماء بجدّنا وجدودنا وإنّا لنرجوا فوق ذلك مظهراً
قلت: وقد أُلقِيت هذه القصيدة التي فيها هذين البيتين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث لم يصحّ. [أنظر ترجمته في السير وتعليق مخرج الحديث عليه 3/ 177].
والحمد لله ربّ العالمين
[عن مجلة نداء الإسلام
مقال للشيخ عمر الفلسطيني المكنى بأبي قتادة - فكّ الله أسره -