وأولى الأقوال، كما أسلفنا، أن المراد بها الملائكة حينما تعرج في أجواز الفضاء صعوداً، وهبوطاً، بأمر الله عز وجل , فإن الملائكة كما أخبر الله: (تعرج الملائكة والروح إليه) , وقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) , فالملائكة تصعد وتهبط بأمر الله عز وجل , وقيل في (السابحات) أيضاً ما قيل في ما قبلها؛ أن المراد بها الموت, وقيل أن المراد بها النجوم؛ لأنها تسبح في فضاء الله عز وجل, وقيل فيها أيضاً السفن؛ لأنها تمخر اليم فهي تسبح فيه في الواقع.
(فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً) هذه الفاء للتفريع تدلنا على أن جميع المذكورات شيء واحد , وصفات لموصوف واحد , فالمذكورات السابقة النازعات , والناشطات , والسابحات هي لموصوف واحد وهي الملائكة على القول الراجح , وأنها ليست أنواعاً يعني ليست النازعات شيء , والناشطات شيء , والسابحات شيء , بل كل هذه صفات لجنس واحد؛ لأنه أتى بعد ذلك بالفاء للتفريع على ما مضى.
(فالسابقات سبقاً) أي: الملائكة تتسابق في امتثال أمر الله , وتنفيذ ما يطلب منها من أنواع الوظائف التي أناطها الله بها. وقيل أيضاً أن المراد بالسابقات: الموت كما قيل فيما مضى , وقيل المراد بها الخيل؛ لأن السابقات مما توصف به الخيول كما قال الله تعالى: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً) فهن يعدون ويتسابقن, وقيل أيضاً: المراد بها النجوم؛ لتسابقها في المطالع والمغارب.
وأولى الأقوال هو القول الأول كما أسلفنا.
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً) أما المدبرات فإنها بإجماع المفسرين: الملائكة , فهي تدبر الأمر الذي يأمرها الله تعالى به. وهذه الجملة الأخيرة، التي هي الوصف الخامس، تؤيد أن جميع ما مضى صفات لموصوف واحد؛ لأن الله تعالى عطف المدبرات على السابقات , والسابقات جاءت مصدرة بالفاء التي تفيد التعقيب , فهذا يرجح بقوة أن النازعات , والناشطات , والسابحات , والسابقات , والمدبرات كلها طوائف من الملائكة، أناط الله تعالى بها أعمالاً ووظائف.
هذه الآيات الخمس عبارة عن قسم , بين الله تعالى المقسم به ولم يبين جواب القسم؛ والظاهر والله أعلم، أن الله تعالى أخفاه إما تعظيماً لشأنه , وإما لشهرته؛ لكونه هو الأمر الذي كان يجري الخلف فيه مع مشركي العرب، وهو البعث. فتقدير جواب القسم: لتبعثن. كأن الله تعالى يقول والنازعات، والناشطات، والسابحات , فالسابقات، فالمدبرات لتبعثن. فيكون المعنى الإجمالي لهذه الآيات الخمس أن الله تعالى أقسم بطوائف من الملائكة منها النازعات التي تنزع أرواح الكفار بشدة، والناشطات التي تنشط أرواح المؤمنين بيسر وسهولة، والسابحات التي تسبح في أجواز الفضاء صعوداً وهبوطاً، والسابقات التي تتسابق في إنفاذ أمر ربها، والمدبرات التي تدبر ما أمرها الله تعالى بتدبيره مما يقع في الكون , أقسم الله تعالى بهذه الطوائف من الملائكة على أمر عظيم جليل , عليه مدار الحياة، وإقامة الحق, وهو البعث بعد الموت، الذي كان ينكره مشركو العرب، ولا ريب أن هذه القضية قضية عظيمة ثقيلة يتأثر بها مسار الحياة؛ فإن من امتلأ قلبه بالإيمان باليوم الآخر، انضبط، وصار عنده حس يقظ , وصار عنده تخطيط، وشعور بالمسؤولية لما هو مقبل عليه.
ونستفيد من هذه الآيات الخمس الفوائد التالية:
أولاً: إقسام الله تعالى بما شاء من مخلوقاته , فلله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته , وليس للمخلوق أن يقسم إلا بالله وحده. فمن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك , أما الله عز وجل فله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وآياته الكونية، والشرعية.
ثانياً: إثبات الملائكة، وأعمالهم. والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان. والملائكة عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور, وسخرهم لعبادته وطاعته , فهم يسبحون الليل والنهار لا يسئمون , ولا يفترون , ولا يستحسرون. وقد جعل الله تعالى طبيعتهم طبيعة تعبدية، لا ينزعون إلى الشر أبداً، على النقيض من الشياطين الذين جعل الله طبيعتهم طبيعة تمردية. وبين الطائفتين الإنسان؛ فإن الإنسان ليس كالملك لا ينزعه إلا الخير, وليس كالشيطان لا ينزعه إلا الشر, بل هو كما قال الله تعالى: (ونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها , قد أفلح من زكاها , وقد خاب من دساها) , فالإنسان بين بين , فهو إن زكى نفسه صارت نفسه ملائكية؛ يعني طائعة لله عز وجل لا أنه يكون ملكاً, لكن تصبح نفسه نفساً مطيعة لله عز وجل منقادة كالملائكة, وإن كانت الأخرى صارت نفسه شيطانية.
ثالثاً: أن إخفاء المقسم عليه يكون للتعظيم , أو للشهرة , فالله تعالى قد أخفى المقسم عليه، وهذا يزيد الأمر جلالةً ومهابةً.
بقلم الشيخ: د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي حفظه الله تعالى.
¥