(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى): قيل أن هذا جواب " إذا " في قوله: (فإذا جاءت الطامة الكبرى) أي حينئذ يتذكر الإنسان ما سعى. وقوله: (الإنسان) أي جنس الإنسان , من مؤمن وكافر , وقوله: (ما سعى) أي في الحياة الدنيا , ما قدم، وما فرط منه. قال صلى الله عليه وسلم:} كل الناس يغدو , فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها {حينما يُبعث الإنسان يوم القيامة , يمر عليه شريط الحياة التي حياها ستين سنة , أو سبعين سنة , أو تسعين سنة , أو أقل , أو أكثر , يتذكره كله، كما قال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود أن لو بينها وبينه أمدا بعيداً) , وكما قال تعالى في سورة الفجر: (يومئذ يتذكر الإنسان وأنا له الذكرى) هذه الذكرى لا فائدة من ورائها.
(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى): (برزت) أي أظهرت , كما في الحديث الصحيح:} يؤتى بجهنم يوم القيامة، لها سبعون ألف زمام , مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها {, وهذا يدل على أنها خلق عظيم هائل، وأنه مشهد مخوف.
(فَأَمَّا مَنْ طَغَى): ابتدأ التقسيم , ومعنى (طغى) أي تجاوز؛ لأن الطغيان معناه التجاوز , كما قال الله، عز وجل: (إنا لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية) يعني لما تجاوز حده , والمقصود (فأما من طغى) أي تكبر , وتجبر , وعصى , وكفر.
(وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا): (آثر) بمعنى قدّم، وفضّل الحياة الدنيا على الآخرة, وذلك باتباع الشهوات, فلم يؤمن , ولم يستجب , وقال كما قال هؤلاء المنكرون للبعث: (أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر) , فنظرتهم هي النظرة الدنيوية المادية، التي ترى أن الذكي، والحاذق، هو الذي يعب من الحياة عباً، ويقتنص الشهوات حيث ما توفرت له، ولا يلزم نفسه بشيء. وهذه الحياة الدنيوية هي حياة من يسمون بتعبير العصر (العَلمانيين) نسبة إلى العالَم، أي الدنيا، لا نسبة إلى العِلم، كما يلفظها بعض الناس، بكسر العين. والترجمة الصحيحة لهذه اللفظة الأوروبية (الدنيويون)، يعني الذين هم بإزاء (الدينيين) أهل الدين. فهؤلاء لا يعنيهم إلا متاع الحياة الدنيا، ولا ينظرون إلا بمنظور المادة, ولا يعنيهم أمر الدين. فهؤلاء هم الذين يصدق عليهم قول الله عز وجل: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى. وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى).
(فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى): (الجحيم) اسم من أسماء النار , وهي علم، ووصف؛ وسميت بالجحيم لتجحمها, يعني لأنها تجحمت من شدة الإيقاد عليها، فهي سوداء مظلمة. ومعنى (المأوى) يعني المرجع، والمآل.
(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى): هذا هو القسم الثاني , و (من) بمعنى الذي, (خاف مقام ربه) يعني خاف المُقام بين يدي الله، عز وجل. فبين عينيه دوماً أنه سيقف بين يدي الله، ليس بينه وبينه ترجمان, فينظر أيمن منه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا عمله, ويرى النار أمامه, والله تعالى من فوقه يحاسبه، ليس بينه وبينه ترجمان، كما أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم. فالمؤمن يخاف من هذا المقام بين يدي الله. وقد أثمر هذا الخوف نهي النفس عن الهوى, والمقصود بالهوى ما تهواه النفس, أي تميل إليه , وغلب استعمال الهوى على الأمر المذموم, وإلا فقد يهوى الإنسان أمراً محموداً. فهذا الموفق، نهى النفس عن الهوى. والنفس الله لها ثلاثة أحوال: تارة تكون مطمئنة , وتارة تكون أمارة , وتارة تكون لوامة. فالمقصود بقوله: (ونهى النفس) جنس النفس الأمارة، وهي التي تأمر صاحبها بالسوء، كما قال الله، عز وجل، على لسان امرأة العزيز: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي). وعلى النقيض منها النفس المطمئنة، ذات القلب المطمئن، قال الله عز وجل: (يأيتها النفس المطمئنة , ارجعي إلى ربك راضية مرضية , فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) نفس ساكنة، خاضعة، راضية، رضية , رضيت بالله رباً , وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً , ليس لها نزعات، وتطلعات، وميولات، وهفوات, فهي تحب ما يحب الله, وتبغض ما يبغض الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:} لا يؤمن أحدكم - يعني الإيمان الكامل - حتى يكون هواه
¥