تبعاً لما جئت به {. هاتان نفسان متقابلتان. وبين هاتين النفسين، نفس تترد جيئة، وذهاباً, تارة تنزعها حالة النفس الأمارة, وتارة تنزعها حالة النفس المطمئنة, وهى التي أقسم الله تعالى بها بقوله: (لا أقسم بيوم القيامة , ولا أقسم بالنفس اللوامة) يعني التي تتلوم على صاحبها , والتلوم هو التلون؛ بمعنى أن لها لوناً تارة ولوناً تارة أخرى, فهي لأغلبهما. فنفوسنا في الأعم الأغلب، نسأل الله أن يصلح أحوالنا، نفوس لوامة , فإنِ الإنسان غلّب الإيمان، ووعظ نفسه، نزع إلى جانب النفس المطمئنة, وإن هو اتبع هواه، وتمنى على الله الأماني، مال إلى النفس الأمارة, فلهذا قال الله عز وجل: (ونهى النفس عن الهوى) , وهذا يحمل معنى المجاهدة؛ لأن النفس تحتاج إلى مجاهدة, لابد من فقه النفس , يجب أن تعلم أن نفسك التي بين جنبيك، قد أودعها الله الخير والشر, قال سبحانه: (ونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها) , فنفسك ليست نفس ملَك قد تمحض للخير, وليست نفس شيطان قد تمحض للشر, بل أُلهمت فجورها وتقواها, بمعنى أنه قد أُودع فيها الاستعداد للخير، والاستعداد للشر, وهذا هو محل الابتلاء، فلأجل هذا قال الله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا, وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) , فالمؤمن يزكي نفسه وينقيها، لا يزال يصلحها، ويتعاهدها، حتى تزكو , والكافر لا يزال يدسيها، ويخفي خيرها، حتى تخيب. ومهمة المؤمن أن يجاهد، حتى يرقى في سلم الكمالات، والمراتب العالية. ألم تروا أن الله سبحانه وتعالى قال: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) تأمل قوله: (آتينا إبراهيم رشده) , إذاً! عندك رشد يمكن أن تؤتاه , ويمكن ألا تؤتاه. فالموفق هو الذي يستنبط هذا الرشد في نفسه, والمحروم هو الذي يدعه مطموراً مغيباً. لقي النبي صلى الله عليه وسلم الحصين بن معبد الخزاعي، والد عمران بن الحصين، رضي الله عنهما، قال له:} يا حصين كم تعبد؟ قال: سبعة؛ ستة في الأرض، وواحداً في السماء. قال: فمن الذي تعده لرغبك ورهبك؟ يعني إذا ادلهمت الأمور، واشتد الخطب، أين يتوجه قلبك؟ قال: الذي في السماء. قال: فاعبده، ودع ما سواه فإنك إن أسلمت علمتك كلمتين {, ثم إن الحصين مضى , وبعد ذلك منّ الله عليه، فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم مسلماً، وقال: يا رسول الله إنك وعدتني إن أنا أسلمت أن تعلمني كلمتين , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم , قل: " اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي " فالموفق هو من ألهمه الله رشده، كما آتى إبراهيم رشده، وأعاذه الله من شر نفسه. في نفسك التي بين جنبيك شر , لو خرج هذا الشر ألقاك في المهالك، فأنت تسال الله أن يقمع هذا الشر, وتسأله أن يظهر هذا الخير. وما مثل ذلك، إلا كمثل بلد يوجد في أرضه نفط، ومعادن، وأحجار كريمة, فإن أهله قاموا عليه، واستنبطوا هذه الخيرات المكنونة، ازدهر البلد، وصار من الدول المتقدمة, وإن هم تركوا هذه الخيرات تحت أطباق الأرض لم ينتفعوا منها. كذلك النفس فيها من الخير المذخور، ومن الرشد ما يحتاج إلى استنباط واستخراج. فإن أنت فعلت، واستنبطته، واستخرجته، وزكيت نفسك، انتفعت دنيا، وآخرة. وإن أنت أهملته وتركته حرمت.
(فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى): الجنة لا يدخلها إلا نفس طيبة، قد تخلصت وتنقت من شوائبها، وعوالقها الرديئة. والمأوى هو المرجع والمصير.
هذا تمام التقسيم، جواب عن قوله: (فإذا جاءت الطامة الكبرى) يعني فإذا جاءت الطامة الكبرى انقسم الناس إلى فريقين , فريق مآله إلى الجنة وفريق مآله إلى النار.
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا): يعني متى وقت وقوعها، وحصولها، كأنه مأخوذ من رسو السفينة , فالسفينة تمخر عباب البحر، ثم ترسو على الشاطئ.
¥