في الأديان السماوية، ويدفع عن الدين ما يعرض لأذهانهم الغافلة عنه، ويُظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء، مع البلاغة العالية، والقوة النادرة، لله دره!! ... (وأطال في الوصف إلى أن قال:) وإنه لكتاب العصر الحاضر، يفيد منه العالم والجاهل، والرجعي والمجدد، بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين. وأنا أرى أنه من الواجب على كل من عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه من الشبان على مطالعته والاستفادة منه، وبث ما فيه من علم نافع، لعل الله يجعل منهم نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام، وأن ينير قلوبًا أظلمت مِن مَلئها بالجهالات المتكررة ... ولعلي أوفق قريبًا إلى بيان بعض الأبحاث الفذة النفيسة من هذا التفسير مما لم يشف فيها الصدرَ أحدٌ من الكاتبين قبله، أو لم يكن في عصورهم ما يثير البحث فيها، وذلك بحول الله وقوته " (جمهرة مقالاته 1/ 174 - 177).
فهذا هو رأي الشيخ أحمد شاكر في الشيخ محمد عبده، وفي تلميذه الشيخ رشيد رضا، وفي التفسير الذي ابتدأه الشيخ محمد عبده، وأتمه صاحبه سائرًا على نهجه، مكمِّلاً مباحثَه، ومتمِّمًا معانيه، ومحققًا أغراضَه.
ويقول في مقالة أخرى له سنة 1354=1935 في تأبين الشيخ رشيد رضا وترجمته: " ويجدر بنا في هذا الموضع أن نصحح خطأ مشهورًا يظنه كثير من الناس صوابًا، وذلك أنهم يزعمون أن السيد رشيد - رحمه الله - جاء إلى مصر لإتمام الدراسة العلمية، ولذلك تتلمذ للشيخ محمد عبده، والحقيقة أنه - رحمه الله - لم يغادر بلاده إلا بعد إتمام دراسته، وبعد نيل الشهادة العالمية والإذن له من شيوخه بالتدريس، وكان قد جاوز الثلاثين من عمره، وإنما اتصل بالأستاذ الشيخ محمد عبده كما يتصل العالم الصغير بالعالم الكبير، وبقي تلميذًا له على هذا المعنى إلى حين وفاته، كما كان يفعل سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - ولو بقي الأستاذ الشيخ محمد عبده إلى الآن حيًّا لبقي السيد رشيد تلميذه إلى الآن، ولوفى له في حياته كما وفى له بعد مماته، رضي الله عنهما. فكان السيد - رحمه الله - مع الأستاذ الإمام تلميذًا له وصديقًا، وناصحًا ومخلصًا، وكان مستودع أسراره، والداعية لآرائه، والمدافع عنه في كل معركة من معارك جهاده، بل كان كما وصفه الأستاذ الإمام لوالدي الأستاذ الأكبر الشيخ محمد شاكر - حفظه الله -: ترجمان أفكاره (جمهرة مقالاته 2/ 658 - 659).
وهو فصل ممتع فيه أدب وعلم ووفاء، فانظره هناك، ولوددت أن أنقله لك لولا طوله، وفيه يقول الشيخ أحمد شاكر في السيد رشيد: " وكنت من أقرب الناس إليه، وأبرهم به ". وأنت ترى الإشارة إلى الوالد محمد شاكر، وهي تدل على أنه كان له صلة به، ورأي حسن فيه.
(7)
وما بي أن أجعل الأستاذ محمدًا عبده بريئًا من كل عيب، فما من البشر أحد يوصف بهذا، ولا أنا بسبيل ترجمته، أو بيان مناقبه، أو قص تاريخه، فما هذا في قدرتي الآن ولا في نيتي، ولكني أدعو إلى قراءة ترجماته التي كتبها الكبار: تاريخ الأستاذ الإمام، ثلاثة أجزاء، للشيخ رشيد رضا، وسيرة الإمام الشيخ محمد عبده للشيخ مصطفى عبد الرازق، وزعماء الإصلاح في العصر الحديث للأستاذ أحمد أمين، والمعاصرون للأستاذ محمد كرد علي، وما كتبه الأستاذ العقاد والدكتور محمد عمارة، وغيرهم.
وأختم برأي إمام آخر من أئمة الدين هو الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي - أطال الله في العافية بقاءه - قال بأسلوبه السهل الممتنع في التفصيل، وطريقته الساحرة التي يلقيها على المشكلات فتحلها، وعلى الملتبسات فتكشفها -: " والناظر في شخصيات المدرسة التجديدية الإحيائية الإسلامية التي بدأت بجمال الدين الأفغاني يجد أن أولها - وهو السيد جمال الدين - كان أكثرها انطلاقًا، وأقلها انضباطًا بقيود الشرع وضوابط الكتاب والسنة، فقد كان أقلهم حظًّا من التبحر في علوم الشريعة ومصادرها، ونجد تلميذه وصديقه الأستاذ الإمام محمد عبده أقرب إلى الالتزام والانضباط منه؛ لأنه أكثر علمًا بالشرع، وأكثر تبحرًا في معارفه بحكم تكوينه الأزهري الأصيل، ونجد تلميذ الأستاذ الإمام رشيد رضا أكثر التزامًا وانضباطًا من شيخه، وشيخ شيخه من باب أولى. فقد أتيح له أن يطلع على آثار المدرسة السلفية التجديدية الكبرى المتمثلة في شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه ... فالسيد جمال الدين أقرب إلى عقلية الفلاسفة، أعني فلاسفة المدرسة المشَّائية الإسلامية من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم. والإمام محمد عبده أقرب إلى عقلية المتكلمين من أمثال الباقلاني وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم. والسيد رشيد أقرب إلى عقلية فقهاء المحدثين الجامعين بين المعقول والمنقول، أمثال الإمام محمد بن إدريس الشافعي وابن دقيق العيد وابن تيمية وابن القيم وابن الوزير وأمثالهم " (فتاوى معاصرة 2/ 84 - 85).
هذا، وقد رأيتُني حقيقًا بمناقشة شيخنا الأستاذ محمود محمد شاكر في رأيه؛ لأنني ثمرة من ثمراته، وتلميذ ضعيف من تلامذته، ولكني لست بعبد الشيخ شاكر، ولا هو يرضى لأحد أن يكون كذلك، على حدته واعتداده بنفسه، وثقته بعلمه وعمله، وكما قيل: هو حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه.
ما أُتي الشيخ محمد عبده إلا من بعض معاصريه من علماء الأزهر الذين أشاعوا عنه قالة السوء، فسودوا صفحته، وأذاعوا زلته، وما كان إلا إمامًا فذًّا، وأحد أفراد الدهر، يخطئ ويصيب كغيره، ويؤخذ من كلامه ويترك، وقال فيهم حافظ إبراهيم:
وآذوك في ذات الإله وأنكروا * مكانك حتى سودوا الصفحات
رأيت الأذى في جانب الله لذة * ورُحت ولم تَهْمُم له بشكاة
لقد كنت فيهم كوكبًا في غياهب * ومعرفةً في أنفس نكراتغرة شعبان 1430
23/ 7/2009
¥