وأَرَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ذَهَبَ إِلى هذا التَّأويلِ مُوَافَقَةً لِقِرَاءَةِ النَّصْبِ، وهذا يُشِيْرُ إِلى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ كَانُوا يُدْرِكُونَ أَنَّ تَغَيُّرَ الحَرَكَةِ عَلَى الكَلِمَةِ يَتْبَعُهُ تَغْيِيْرٌ في المَعْنى، ولِذلِكَ كَانَ لَهُم تَأْوِيْلٌ في حَالَةِ الرَّفْعِ، وآخَرُ في حَالَةِ النَّصْبِ.
وللنُّحاةِ تأويلٌ آخَرُ لِوَجْهِ النَّصْبِ، قَالَ الفارسِيُّ: "وأَمّا إِذا نَصَبَ، فلا يَخْلُو في نَصْبِها مِنْ أَنْ يَحْمِلَها عَلَى (خَتَمَ) هذا الظّاهِرِ، أَو عَلَى فِعْلٍ آخَرَ غَيْرَهُ، فَإِنْ قَالَ: أَحْمِلُها عَلَى الظّاهِرِ كَأَنِّي قُلْتُ: وخَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ غِشَاوَةً، أَيْ: بِغِشَاوَةٍ، فَلَمّا حَذَفَ الحَرْفَ وَصَلَ الفِعْلَ، ومَعْنى: خَتَمَ عَلَيْهِ بِغِشَاوَةٍ مِثْلُ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً."
وقَدْ جَاءَ هذا التَّأويلُ النَّحْوِيُّ مُوافِقًا لِتَأويلٍ آخَرَ عِنْدِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، وهو مَا نُقِلَ عَن سَعِيْدٍ المَقْبَرِيِّ، جَاءَ في تَفْسِيْرِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: "حَدَّثَنا عَلِيٌّ بنُ الحُسَيْنِ، ثَنَا مُحَمّدٌ بنُ المُثَنّى، ثَنَا مُحَمّدٌ بنُ جَهْضَمٍ، ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيْدٍ المَقْبَرِيِّ، قَالَ: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم بِالكُفْرِ."
والظّاهِرُ ممّا سَبَقَ أَنَّ كُلَّ تَأوِيْلٍ نَحْوِيٍّ كَانَ يُوَافِقُهُ تَأْوِيْلٌ عِنْدَ المُفَسِّرِيْنَ، فَتَوْجِيْهُ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ عِنْدَ النُّحَاةِ يُوَافِقُه تَأْوِيْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: (الغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِم)، وتَوْجِيْهُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ عِنْدَ النُّحَاةِ مُتَعَدِّدٌ كَما أَنَّ تَأْويلَ المُفَسِّرِيْنَ مُتَعَدِّدٌ، فالّذي أَرَاهُ أَنَّ النُحَاةَ كَانُوا يَنْظُرُونَ تَأوِيْلاتِ مَنْ سَبَقَهُم، ثُمَّ يُوجّهُونَ الآيَةَ التَّوْجِيْهَ المُنَاسِبَ لِتَأويل المُفَسِّرِيْنَ.
2. العَطْفُ، ووَاوُ الصَّرْفِ:
قولُهُ تَعَالَى: ?وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ? (البقرة:42)
ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ في توجيه هذه الآية وَجْهين: الأوّل: مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: "حَدَّثَنا عُثْمَانُ بنُ سَعِيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنا بِشْر بنُ عَمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: (وَتَكْتُمُوا الحَقَّ) يَقُولُ: ولا تَكْتُمُوا الحَقَّ وأَنْتُم تَعْلَمُونَ."
والوَجْهُ الثّانِي: مَذْهَبُ أبِي العَالِيَةِ ومُجَاهِدٍ، قال الطّبَرِيُّ: "حَدَّثَنا أَبُو جَعْفَرٍ عَن الرَّبِيْعِ عَن أَبِي العَالِيَةِ: (وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وأَنْتُم تَعْلَمُونَ)، قَالَ: كَتَمُوا بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،" وكذلكَ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
أمّا النُّحَاةُ فلهم في تَوْجِيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ?وَتَكْتُمُوا? رَأْيَانِ، هُما:
الأَوَّلُ: هو مَجْزُومٌ بِالعَطْفِ عَلَى (تَلْبِسُوا)، والمَعْنى أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ نَهى أَهْلَ الكِتَابِ والكَافِرِيْنَ عَنْ أَمْرَيْنِ: خَلْطِ الحَقِّ بِالبَاطِلِ، وكِتِمَانِ الحَقِّ، والحَقُّ هو صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم الوَارِدَةُ في التَّوْراةِ والإِنْجِيْلِ، كَما وَرَدَ في بَعْضِ الأَقْوَالِ، فالنَّهْيُ هُنا عَن الحَدثَيْنِ.
والثّانِي: النَّصْبُ، وفِيْهِ عِدَّةُ أَوْجُهٍ، هي:
الوَجْهُ الأَوّلُ: النَّصْبُ بِإِضْمَارِ (أَنْ)، والوَاوُ بِمَعْنى الجَمْعِ، والمَعْنى في هذا الرَّأيِ أَنَّ اللهَ جَلَّ وعَلا نَهَاهُم عَن الجَمْعِ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ: الخَلْطِ، والكِتْمَانِ، فَيَجُوزُ لأَحَدِهِم أَنْ يَقُومَ بِفِعْلٍ مِنْهُما، والتَّقْدِيْرُ: لا يَكُنْ مِنْكُم لَبْسُ الحَقِّ وكِتْمَانُهُ، وهذا رَأيُ البَصْرِيِّيْنَ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: "وهو عِنْدَ البَصْرِيِّيْنَ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهّم،" وهو مُتَابَعَةٌ لِرَأْيِ سِيْبَوَيْه، قَالَ: "إِنْ ِشِئْتَ جَعَلْتَ (وتَكْتُمُوا) عَلَى النَّهْيِ، وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ عَلَى الوَاوِ،" وهي عِنْدَه بِإِضْمَارِ (أَنْ).
¥