هذه الآيَةُ: ?نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ? يَقُولُ: مِنْ أَيِّ وَجْهٍ شِئْتُم."
ومِنْ ذلِكَ قَوْلُه: "حَدَّثَنا عُبَيْدُاللهِ بنِ سَعْدٍ, قَالَ: ثَنَا عَمّي, قَالَ: ثَنَا أَبِي, عَنْ يَزِيدَ, عَنْ الحَرْثِ بنِ كَعْبٍ, عَنْ مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ, قَالَ: إِنَّ ابْنَ عَبّاسٍ كَانَ يَقُولُ: اسْقِ نَبَاتَك مِنْ حَيْثُ نَبَاتُه" ومِن ذلك النّصّ الّذي رَواهُ الفَرّاءُ بِمَعْنى (مِن حَيْثُ).
وهذا رَأيُ الزّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: "مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتُمْ"، ثمّ قالَ: "لا تُحْظَرُ عَلَيْكُمْ جِهَةٌ دُونَ جِهَةٍ، والمَعْنى: جَامِعُوهُنَّ مِنْ أَيِّ شِقٍّ أَرَدْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ المَأْتَى وَاحِدًا، وهو مَوْضِعُ الحَرْثِ،" وقَدْ عَبّرَ بَعْضُ النُّحَاةِ عَنْ هذا المَعْنى بِقَوْلِهِ: (مِن أَيْنَ شِئتُم)، قَالَ النَّحّاس: "ومَعْناهُ مِنْ أَيْنَ شِئْتُم، أَي: مِن أَيّ الجِهَاتِ شِئْتُم."
الثّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنى (مَتَى شِئْتُم)، ونَقَلَ الطَّبَرِيُّ نَصَّيْن في هذا المَعْنى، الأَوّلُ مَرْوِيٌّ عَن الضَّحّاكِ، قَالَ الطّبَرِيُّ: "حَدَّثْتُ عَنْ حُسَيْنِ بنِ الفَرَجِ, قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الفَضْلَ بنَ خَالِدٍ, قَالَ: أَخْبَرَنا عُبَيْدُ بنُ سُلَيْمَانَ, قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ?فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ? يَقُولُ: مَتَى شِئْتُم."
والثّانِي عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: "بَيْنا أَنَا ومُجَاهِدٌ جَالِسَانِ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ, أَتَاهُ رجُلٌ، فَوَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ, فَقَالَ: يَا أَبَا العَبّاسِ، أَو يَا أَبَا الفَضْلِ أَلا تَشْفِيْنِي عَنْ آيَةِ المَحِيْضِ؟ فَقَالَ: بَلَى فَقَرَأَ: ?وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ? (البقرة: 222) حَتّى بَلَغَ آخِرَ الآيَةِ, فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِنْ حَيْثُ جَاءَ الدَّمُ، مِنْ ثَمَّ أُمِرْتَ أَنْ تَأْتِيَ, فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا أَبَا الفَضْلِ، كَيْفَ بِالآيَةِ الّتِي تَتْبَعُها: ?نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ؟ ? فَقَالَ: إِيْ وَيْحَكَ وفِي الدُّبُرِ مِنْ حَرْثٍ؟ لَوْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا لَكَانَ المَحِيْضُ مَنْسُوخًا إِذا اشْتَغَلَ مِنْ ههنا جِئْتَ مِنْ ههنا، ولكنْ أَنّى شِئْتُم مِن اللَّيْلِ والنَّهَارِ."
وقَدْ جَاءَ هذا الرَّأْيُ في كَثِيْرٍ مِن كُتُبِ التّفْسِيْرِ والنَّحْوِ، قَالَ الرّازي: "المَعْنَى: أَيَّ وَقْتٍ شِئْتُمْ مِنْ أَوْقَاتِ الحِلِّ، يَعْنِى: إِذا لَمْ تَكُنْ أَجْنَبِيّةً أَوْ مُحَرّمَةً أَوْ صَائِمَةً أَوْ حَائِضًا."
الرّابِعُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنى (أيْنَ شِئْتُم)، أَوْ (حَيْثُ شِئْتُم)، وقَدْ نَقَلَ الطّبَرِيُّ فِي هذا المَعْنى عِدّةَ رِوَايَاتٍ، جَمِيْعُها رِوَاياتٍ عَنْ نَافِعٍ عَن عِبْدِ اللهِ بن عُمَرَ إلاّ رِوَايَةً عَنْ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ عن ابنِ عُمَرَ، وأُخْرى عَنْ زَيْدِ بن أَسْلَمَ، والمَعْنى فِيْها جَوَازُ الإِتْيَانِ في الدُّبُرِ، وقَدْ نُسِبَ جُوازُه إِلى الإِمَامِ مَالِكِ، وحُكِيَ أَنَّ ذلكَ في كِتابٍ لَهُ يُسَمّى كِتابُ السّرِّ، وأصْحَابُهُ يُنْكِرُونَ الكِتَابَ، وقَدْ تَبَرَّأَ مِنْ ذلكَ رَحِمَهُ اللهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا الحَرْثُ في مَوْضِعِ الزَّرْعِ، ونَقَلَ نافُعٌ ذلكَ عن ابنِ عُمَرَ، قَالَ الرّازِيُّ: "وَسَائِرُ النّاسِ كَذّبُوا نَافِعًا في هذه الرِّوَايَةِ،" وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ تَكْفِيْرُ مَنْ يَفْعَلُ ذلكَ، وهو رَأْيُ السَّيّدِ المُرْتَضى مِن الشِّيْعَةِ، وعِنَدَه أُمُورٌ يَحْتَجُّ بِها، ونُسِبَ هذا أَيْضًا إِلى سَعِيْدِ بنِ المُسَيّبِ، ونَافِعٍ، ومُحَمّدِ بنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ، وعَبْدِ المَلِكِ بنِ المَاجِشُونَ.
¥