ويَكْفِي في رَدِّ هذا الرَّأْيِ قَوْلُ أَبِي حَيّانَ: "وقَدْ رَوى تَحْرِيْمَ ذلكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ اثْنا عَشَر صَحَابِيًّا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، كُلُّها تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيْمِ، ذَكَرَها أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وأَبُو دَاوُودَ والتّرْمِذِيُّ والنّسائِيُّ وغَيْرُهُم، وقَدْ جَمَعَها أَبُو الفَرَجِ بن الجَوْزِيِّ بِطُرِقِها في جُزْءٍ سَمّاهُ تَحْرِيْمَ المَحَلِّ المَكْرُوهِ."
أَمّا النُّحَاةُ فقَدْ ذَكَرَ سِيْبَوَيْه أَنَّ (أَنّى) تَكُونُ بِمَعْنى كَيْفَ، وأَيْنَ، وأشَارَ جُمْلَةٌ مِن النُّحَاةِ إِلى أَنَّ الآيَةَ قَدْ فُسِّرَتْ بالمَعَانِي الثَّلاثَةِ: كَيْفَ، وأيْنَ، ومَتى، قالَ أبُو حَيّانَ: "وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أنَّى بِمَعْنى أَيْنَ، فجَعَلَها مَكَانًا."
الخَامِسُ: العَزْلُ، فالمَعْنى إِنْ شِئْتُم فَاعْزِلُوا، وإِنْ شِئْتُم فَلا تَعْزِلُوا، وقَدْ نَقَلَ فِيْهِ الطَّبَرِيُّ قَوْلَيْن، هما:
الأَوّلُ: قَالَ الطّبَرِيُّ: "حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بنِ إسْحَاقَ, قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ, قَالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بنُ صَالِحٍ, عَنْ لَيْثٍ, عَنْ عِيسَى بْنِ سِنَانٍ, عَنْ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ: ?فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ? إِنْ شِئْتُم فَاعْزِلُوا, وإِنْ شِئْتُم فَلا تَعْزِلوا."
الثّانِي: حَدّثَنا أَبُو كُرَيْبٍ, قَالَ: حَدّثَنا وَكِيْعٌ, عَنْ يُونُسَ, عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ, عَنْ زَائِدَةَ بنِ عُمَيْرٍ, عَنْ ابنِ عَبّاسٍ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَاعْزِلْ, وإِنْ شِئْتَ فَلا تَعْزِلْ."
وأَرَى أَنَّ هذا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ تَحْتِ تَوْجِيْهِ مَنْ قَالَ: إنّها بِمَعْنى (كَيْفَ)؛ لأَنّ المَقْصُودَ مِنْ كَلامِ ابنِ المُسَيّبِ وابْنِ عَبّاسٍ تَوْجِيْهٌ للآيَةِ، ولَيْسَ تَحْدِيْدًا لِدَلالَةِ (أَنّى) تَحْدِيْدًا مَكَانِيًّا، فالمَعْنى هنا قد يَكُونُ مَعْنى (كَيْفَ)، أَوْ (مِنْ حَيْثُ).
يُلاحَظُ في هذه الآرَاءِ ارْتِبَاطُها بِالدّلالَةِ الّتي ذَكَرَها أَهْلُ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، ومِنْ ثَمَّ ارْتِبَاطُها بِالحُكْمِ الفِقْهِيِّ، فَكُلُّ رَأْيٍ مِنْ هذه الآرَاءِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنى مُخْتَلِفٍ عن الآخَرِ، والشَّرْعُ قَدْ أَجَازَ للرَّجُلِ أََنْ يَأتِيَ امْرَأَتَهُ في أَيِّ وَقْتِ، وعَلَى أَيّةِ كَيْفِيّةٍ، ومِنْ أَيِّ طَرِيْقٍ، فالفُقَهاءُ مُتّفِقُونَ عَلَى ذلِكَ، لكنّهُم مُخْتَلِفُونَ في المَعْنى الرّابِعِ، وجُمْهُورُ العُلَماءِ ذَهَبُوا إلى تَحْرِيْمِ الإِتْيانِ في الدّبُرِ.
وأَرَى أَنَّ تَعَدُّدَ الآرَاءِ النَّحْوِيّة مُرْتَبِطٌ بِتَعَدُّدِ آرَاءِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ مِن المُفَسِّرِيْنَ، فَتَعَدُّدُ آرَاءِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ سَبَبٌ في وُجُودِ الخِلافِ بَيْنَ النُّحَاةِ في التّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ لآيَاتِ القُرآنِ الكريْمِ، وذلِكَ لأَنَّ النَّحْوِيَّ يَنْطَلِقُ في تَوْجِيْهِهِ مِن المَعْنى، وهو يَأْخُذُ المَعْنى مِن المفَسِّرِيْنَ، فَإِذا اخْتَلَفُوا في تَأْوِيْلِهِم للمَعْنى اخْتَلَفُوا في التّأوِيْلِ النَّحْوِيِّ.
خاتِمَة:
تَبَيَّنَ للبَاحِثِ في هذه الدِّرَاسَةِ أَنَّ تَوْجِيْهَ النُّحَاةِ لآيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ قَدْ تَأَثَّرَ بالتَّفْسِيْرِ بالمَأثُورِ، سَواءٌ كَانَ بِتَفْسِيْرِ القُرآنِ للقُرآنِ، أَو بالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، أَو بِمَا نُقِلَ عَن الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْنَ، وهذا أَمْرٌ بَدَهِيٌ، فالتَّفْسِيْرُ يَهْدِفُ إِلى بَيَانِ المَعْنى، والكَشْفِ عَنْهِ، وهذا هو غَايَةُ المُعْرِبِ، فالمَعْنى عِنْدَهُ هو مَا يُحَاوِلُ إِيْضَاحَهُ عِنْدَ الإِعْرَابِ، فلا بُدَّ إِذن أَنْ يَرْتَكِزَ عَلَى أَسَاسٍ مِن المَعْنى، وهو التَّفْسِيْرُ.
وقَدْ اسْتَطَاعَ البَاحِثُ في هذه الدِّرَاسَةِ أَنْ يَصِلَ إِلى مِجْمُوعَةٍ مِن النَّتَائِجِ، يَجْدُرُ بِهِ أَنْ يُوجِزَ أَهَمَّها:
¥