تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فأما مسألة العجمة فقد أفرزت ما سمي بـ «علم النحو»، الذي تبلَّر على يد العلامة سيبويه (ت187ه) في كتابه الشهير «الكتاب»؛ إذ يُرجع الباحثون نشأة هذا العلم إلى انتشار «اللّحن» بدخول الشعوب غير العربية في الإسلام، ولأن اللحن يحول دون التواصل مع الكتاب الكريم، بل ويعرضه لخطأ وسوء الفهم، فقد كان الدرس النحوي لتقويم اللسان حفظاً لفهم القرآن الكريم وحسن أدائه.

وأما قضية «إعجاز القرآن» فقد كانت الشغل الشاغل للمتكلمين، وقد أوصل البحث فيها إلى ولادة «علم البلاغة»، وليس غريباً أن يكون ذلك على يد متكلمين) مثل المعتزلة، وتحديداً الجاحظ الذي ابتكر أهم مصطلحاته خصوصاً مصطلح «المجاز»، وأدى أيضاً البحث في إعجاز القرآن إلى إنشاء علم «مشكل القرآن» على يد ابن قتيبة (ت276ه) في كتابه «تأويل مشكل القرآن»، الذي يبحث في انسجام القرآن وتماسك نظمه.

هذا فيما أدّت قضية «عربية القرآن» إلى جمع اللغة وتدوين المعجم، فولَّد «علم المعاجم» أو المعجمة العربية مع الخليل الفراهيدي (ت170ه) في معجمه النفيس «العين».

كما أن توسُّع ديار المسلمين بالفتوحات فرض تغيّرات في أنماط الحياة وفي مستجدات فتحت باب الاجتهاد الفقهي على مصراعيه، بما يعني ذلك من تأويل للنصوص وبحث في دلالتها، أدّت هذه الأحداث بعمومها إلى محاولة ضبط الفوضى الفقهية، بعدما كثر المجتهدون بتأسيس «علم أصول الفقه» على يد الإمام الشافعي (ت 204ه) -رحمه الله- في كتابه «الرسالة».

وقد فتحت ظاهرة الفرق الوضع في الحديث النبوي الشريف، مما استدعى تدوين الحديث، وابتكار شروطه، ولأن التدوين كان الشاغل الرئيسي فإن البلورة النظرية لعلم المصطلح بدأت مبكّرة جداً (سنجدها لدى الإمام مالك (ت179ه) والبخاري (ت256ه) ومسلم (ت261ه) .. الخ)، لكن تدوينها كان متأخراً؛ إذ لم يأتِ حتى تأليف الحسن الرامهرمزي (ت360ه) كتابه «المحدِّث الفاضل بين الراوي والواعي،» ثم ابن الصلاح (ت643ه) في مقدمته الشهيرة في علوم الحديث، وإن كان أصول علم الحديث نجدها عند الشافعي في رسالته بمفاهيمه ومصطلحاته، و قد تطورت لاحقاً بشكل كبير في باب رئيس من أبواب أصول الفقه هو «السنة».

وما أن تأسست هذه العلوم حتى استقلت وتغيّرت وظيفتها، وأصبحت مسألة فهم عموم القرآن تحظى باهتمامٍ ثانويٍ، فقد انتقل النحو مثلاً من مهمة «ضوابط يسيرة يقيم بها المعربون ألسنتهم بعد أن ضاعت السليقة العربية إلى علم دقيق معقّد ومتطور يُدرس لذاته، فلم [يعد] يقتصر على كونه أداةً لصون العربية من اللحن والزلل» بينما انتقلت البلاغة لدراسة «الفصاحة»، وأسست المعجميّة بحوث اللغة (الصرف، المعجم)، وأصبحت دراسة غريب القرآن جزءاً من الدراسة اللغوية تستثمر في التفسير. لكن هذا الانفصال الطبيعي يشير إلى أن هذه العلوم قد أنجزت المهمة الرئيسية التي قامت لأجلها، وهي مهمة محصلتها صيانة العربية لصيانة التواصل مع القرآن وفهمه، وبالتالي حلّت هذه العلوم بالاشتراك مع الخبر والرواية (النبوية والآثار) مقام علم مستقل للتفسير؛ ولذلك كان منطقياً أن يحيل المفسّر دوماً على علوم اللغة، وأحياناً قليلة على علم الأصول (خصوصاً فيما يتعلق بآيات الأحكام)؛ ولذلك أيضاً احتل السلف الصالح -رضي الله عنهم- موقع المرجعيّة في التفسير، فقد نظر إليهم باستمرار على أنهم «أعرف باللغة»، و «أعلم» بها وبأساليب العرب في التعبير والبيان، فضلاً عن شهادتهم عصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

وفي حدود هذا الإطار كان يتم التركيز على دور اللغة في التفسير؛ فقد اعتبرت هذه العلوم أدوات ناجزة لتفسير القرآن الكريم، حتى قيل إن كتاب الله «لا يتفسّر إلاّ بتصريف جميع العلوم فيه»، والعلوم اللغوية هي أهم هذه العلوم، وبذلك فقد استغني عن تأسيس «علم أصول التفسير» بوصفه علماً مستقلاً، واكتُفي بالإشارة إلى «شروط التفسير» و «شروط المفسّر» بشكل موجز في مقدمات التفاسير.

وهذا يكشف لنا عن سبب بروز أداتين رئيسيتين في التفسير: «علوم اللغة» التي غالباً ما يشار إليها بوصفها أساس منهج «التفسير بالرأي»، و «الرواية» التي غالباً ما يشار بوصفها أساس منهج «التفسير بالنقل»، بحيث بقي علم الأصول هامشياً في المناهج التي سادت كتب التفسير حتى اليوم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير