وعلى هذا فمن اقتصر في صيامه على كف شهوة البطن والفرج، وترك هذه المعاني، فقد قال الفقهاء: صومه صحيح، فما معناه فاعلم أن فقهاء الظاهر يثبتون شروط الظاهر بأدلة هي أضعف من هذه الأدلة التي أوردناها في هذه الشروط الباطنة؛ لا سيما الغيبة وأمثالها ولكن ليس إلى فقهاء الظاهر من التكليفات إلا ما يتيسر على عموم الغافلين المقبلين على الدنيا الدخول تحته.
فأما علماء الآخرة فيعنون بالصحة القبول، وبالقبول الوصول إلى المقصود، ويفهمون أن المقصود من الصوم التخلق بخلق من أخلاق الله عزَّ وجلَّ وهو الصمدية والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان، فإنهم منزهون عن الشهوات.
والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته، ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه، وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين، والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة.
والملائكة مقربون من الله عزَّ وجلَّ، والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يُقرب من الله عزَّ وجلَّ كقربهم؛ فإن الشبيه من القريب قريب وليس القريب، ثم بالمكان بل بالصفات، وإذا كان هذا سر الصوم عند أرباب الألباب وأصحاب القلوب فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الأخرى طوال النهار، ولو كان لمثله جدوى فأي معنى لقوله صلى الله عليه وسلم: "كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش"، ولهذا قال أبو الدرداء: (يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم، ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين)؛ ولذلك قال بعض العلماء: كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم.
والمفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه عن الآثام ويأكل ويشرب، والصائم المفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه.
ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مثل من كف عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات، فقد وافق في الظاهر العدد إلا أنه ترك المهم وهو الغسل، فصلاته مردودة عليه بجهله، ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن المكاره كمن غسل أعضاءه مرة مرة، فصلاته متقبلة إن شاء الله لإحكامه الأصل وإن ترك الفضل.
ومثل من جمع بينهما، كمن غسل كل عضو ثلاث مرات، فجمع بين الأصل والفضل وهو الكمال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته"، (أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث ابن مسعود في حديث في الأمانة والصوم، وإسناده حسن).
ولما تلا قوله عزَّ وجلَّ ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا? (النساء: من الآية 58) وضع يده على سمعه وبصره، فقال: "السمع أمانة والبصر أمانة"، (أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة دون قوله: "السمع أمانة")، ولولا أنه من أمانات الصوم، لما قال صلى الله عليه وسلم "فليقل إني صائم" أي إني أودعت لساني لأحفظه، فكيف أطلقه بجوابك فإذن قد ظهر أن لكل عبادة ظاهرًا وباطنًا وقشرًا ولبًّا، ولقشرها درجات ولكل درجة طبقات، فإليك الخيرة الآن في أن تقنع بالقشر عن اللباب، أو تتحيز إلى غمار أرباب الألباب. (إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي جـ1صـ235 بتصرف).
والآن فالأمر إلينا وبين أيدينا وقد أقبل رمضان فإما أن يُغيرنا رمضان فيأتي شفيعًا لنا بين يدي الله، وإما والعياذ بالله أن نُغير ونُبدل وننقض العهد مع رمضان فيأتي خصمًا لنا يوم القيامة.
وبعد فلا أجد ما أختم به حديثي عن التغيير المنشود في شهر رمضان أبلغ ولا أعظم ولا أجمع من كلام الإمام ابن القيم الذي يعرض فيه فلسفته للصوم فيقول رحمه الله: (الْمَقْصُودُ مِنْ الصّيَامِ وَفَوَائِدِهِ؛ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الصّيَامِ حَبْسَ النّفْسِ عَنْ الشّهَوَاتِ وَفِطَامَهَا عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ، وَتَعْدِيلَ قُوّتِهَا الشّهْوَانِيّةِ لِتَسْتَعِدّ لِطَلَبِ مَا فِيهِ غَايَةُ سَعَادَتِهَا وَنَعِيمِهَا وَقَبُولِ مَا تَزْكُو بِهِ مِمّا فِيهِ حَيَاتُهَا الْأَبَدِيّةُ، وَيَكْسِرُ الْجُوعُ وَالظّمَأُ مِنْ حِدّتِهَا وَسَوْرَتِهَا وَيُذَكّرُهَا بِحَالِ الْأَكْبَادِ الْجَائِعَةِ مِنْ الْمَسَاكِينِ، وَتُضَيّقُ
¥