تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مَجَارِي الشّيْطَانِ مِنْ الْعَبْدِ بِتَضْيِيقِ مَجَارِي الطّعَامِ وَالشّرَابِ، وَتَحْبِسُ قُوَى الْأَعْضَاءِ عَنْ اسْتِرْسَالِهَا لِحُكْمِ الطّبِيعَةِ فِيمَا يَضُرّهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا، وَيُسَكّنُ كُلّ عُضْوٍ مِنْهَا وَكُلّ قُوّةٍ عَنْ جِمَاحِهِ، وَتُلْجَمُ بِلِجَامِهِ فَهُوَ لِجَامُ الْمُتّقِينَ وَجُنّةُ الْمُحَارِبِينَ وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرّبِينَ وَهُوَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنّ الصّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَإِنّمَا يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ، فَهُوَ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النّفْسِ وَتَلَذّذَاتِهَا؛ إيثَارًا لِمَحَبّةِ اللّهِ وَمَرْضَاتِهِ وَهُوَ سِرّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبّهِ لَا يَطّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَطّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُفْطِرَاتِ الظّاهِرَةِ، وَأَمّا كَوْنُهُ تَرْكَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَشَهْوَتِهِ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَطّلِعُ عَلَيْهِ بَشَرٌ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصّوْمِ، وللصومِ تَأثِيرٌ عجيبٌ فِي حِفْظِ الْجَوارحِ الظاهرةِ والقُوَى البَاطِنة وحميَّتها عَن التَّخلِيط الْجَالبِ لها المَوَاد الفَاسِدة التي إِذَا اسْتَولَت عَليْها أفسَدتْهَا، واسْتِفَراغُ الموادِّ الرَّديئةِ المَانِعَةِ لَها مِنْ صحتها، فالصَّومُ يَحْفَظُ عَلَى الْقَلبِ والْجَوَارِحِ صِحْتِهَا، ويُعِيدُ إِلَيْهَا مَا اسْتَلَبَته مِنْهَا أَيْدِي الشّهَوَاتِ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى التّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: ?يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ (185) ? (الْبَقَرَةُ)، وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: "الصّوْمُ جُنّةٌ"، وَأَمَرَ مَنْ اشْتَدّتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النّكَاحِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِالصّيَامِ وَجَعَلَهُ وِجَاءَ هَذِهِ الشّهْوَةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنّ مَصَالِحَ الصّوْمِ لَمّا كَانَتْ مَشْهُودَةً بِالْعُقُولِ السّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ شَرَعَهُ اللّهُ لِعِبَادِهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ وَإِحْسَانًا إلَيْهِمْ وَحِمْيَةً لَهُمْ وَجُنّةً، وَكَانَ هَدْيُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِ أَكْمَلَ الْهَدْيِ وَأَعْظَمَ تَحْصِيلٍ لِلْمَقْصُودِ وَأَسْهَلَهُ عَلَى النّفُوسِ، كَانَ فَطْمُ النّفُوسِ عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا مِنْ أَشَقّ الْأُمُورِ وَأَصْعَبِهَا تَأَخّرَ فَرْضُهُ إلَى وَسَطِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَمّا تَوَطّنَتْ النّفُوسُ عَلَى التّوْحِيدِ وَالصّلَاةِ وَأَلِفَتْ أَوَامِرَ الْقُرْآنِ فَنُقِلَتْ إلَيْهِ بِالتّدْرِيجِ.

(زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام بن القيم جـ 2 صـ26 - 29).

نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وكلماته العلى كما بلغنا رمضان، أن يرزقنا فيه نية صادقةً وقلوبا خالصة وأعمالاً صالحة تدل على صدق هذه النية وإخلاص تلك القلوب، كل عام وأنتم بخير، وتقبل الله منا ومنكم

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير