يَرَى الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله أنّ الاستثناءَ لا يَصِحُّ إلاّ بدليلٍ لأنّه خِلافُ الأصْلِ؛ وعليه فقد قالَ عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} (البقرة: من الآية21):" {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} النداءُ هُنَا وُجِّهَ لعمومُ الناسِ مع أنّ السُّورَةَ مَدنِيَّةٌ؛ والغالبُ في السُّوَرِ المدنيَّةِ أنّ النداءَ فيها يكونُ مُوَجَّهًا للمؤمنين. والله أعلم بما أرادَ في كِتَابِهِ؛ ولو قالَ قائلٌ: لعلَّ هذهِ آيةٌ مَكِّيَّةٌ جُعِلَتْ في السُّورَةِ المدنيَّةِ؟
فالجوابُ: أنّ الأَصْلَ عدمُ ذلكَ - أيْ عدمُ إدْخَالِ الآيةِ المكِّيَّةِ في السُّوَرِ المدنيَّةِ، أو العكْس؛ ولا يجوزُ العُدُولُ عن هذا الأَصْلِ إلا بدليلٍ صَحِيحٍ صَرِيحٍ؛ وعلى هذا فما نَرَاهُ في عناوينِ بعضِ السُّوَرِ أنّها مَدَنِيَّةٌ إلاّ آيةَ كَذَا، أو مَكِّيَّةٌ إلاّ آيةَ كَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ حتّى يَثْبُتَ ذلكَ بدليلٍ صَحِيحٍ صَرِيحٍ؛ وإلاّ فالأَصْلُ أنّ السُّورَةَ المدنيَّةَ جميعُ آياتِها مدنيَّةٌ، وأنّ السُّوَرَ المكِّيَّةَ جميعُ آياتِها مَكِّيَّةٌ إلا ّبدليلٍ ثابتْ ". ()
وقالَ في تفسيره لسورة الكهف: " سورةُ الكهفِ مَدَنِيَّةٌ، واستَثْنَى بعضُ المفسِّرينَ بعضَ الآياتِ: أَوَّلُهَا (1 – 8)، وآية رقم (28)، ومِن (107 – 110) على أنّها مَكِّيَّةٌ ()، ولكن هذا الاستثناءَ يحتاجُ إلى دليلٍ؛ لأنّ الأصْلَ أنّ السُّوَرَ المكِّيَّةَ مكِّيَّةٌ كُلُّهَا، وأنّ المدنيَّةَ مدنيَّةٌ كُلُّهَا، فإذا رأيْتَ استثناءً فلا بُدَّ مِن دليلٍ ". ()
ولِذا فينبغي تَتَبُّعُ المواضِع التي ذكَرَها المفسِّرُونَ فما دلَّ الدليلُ على الاستثناءِ يُثْبَتْ وما لَمْ يَدُلَّ دليلٌ عليه فالأَصْلُ عَدَمُهُ، وقد بيّنَ الشيخُ رحمه الله سبَبَ كَثْرةِ الاستثناءِ عند
المفسِّرِينَ فقال:" فبعضُ العلماءِ إذا نَظَرَ إلى أنّ المعنى يَلِيقُ بالسُّوَرِ المدنيَّةِ، أو بالأحْكامِ المدنيَّةِ ذَهَبَ يَسْتَثْنِي ويقول:" إلاّ آيةَ كَذَا، إلاّ آيةَ كَذَا " وهذا غَيْرُ مُسَلَّمٍ ".
قالَ ابنُ الحَصَّارِ في نَظْمِه للسُّوَرِ المكِّيَّةِ والمدنيَّةِ:"
وذا الذي اخْتَلَفَتْ فيهِ الرُّوَاةُ لَه وَرُبَّمَا اسْتُثْنِيَتْ آيٌ مِن السُّوَر
وما سِوَى ذاكَ مَكِّيٌّ تنزله فلا تَكُنْ مِن خِلافِ الناسِ في حَصَرِ
فليسَ كُلُّ خِلافٍ جاءِ مُعْتَبَرًا إلاّ خلافٌ لَهُ حظٌّ مِن النَّظَرِ
وقد تَتَبَّعَ السيوطيُّ رحمه الله ما قِيلَ باستثنائِه وذكَرَ الأدلَّةَ على ذلكَ مُختصرًا في كتابه: الإتقان. ()
وقد ذَكَرَ الشيخُ عبدُ الله الجديع أنّه قامَ بِتَتَبُّعِ أسانِيدِ ما قِيلَ فيه بالاستثناءِ وخَلُصَ إلى أنّ الذي ثَبَتَتْ به الرِّوايةُ مِن المدنيِّ في المكِّيِّ في تِسْعِ سُوَرٍ هي: سُورَةُ هُودٍ والنحْل والإسْرَاء والحَجّ (في ثلاثة مَواضِع) ويس والزمر (في مَوْضِعَين) والشورى والأحقاف والتغابن، ومَوْضِعُ مَجِيء المكِّيِّ في المدنيِّ في سُورَةِ الحديد فقط. ()
وإعْمالاً لِمَا ذَكَرَهُ الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله مِن أنّه لا بُدَّ لِصِحَّةِ الاستثناءِ مِن دليلٍ صَحِيحٍ صَرِيحٍ فإنّي سأذْكُرُ مَوْضِعَين نَبَّهَ الشيخُ على عَدَمِ صِحَّةِ الاستثناءِ؛ إلاّ أنّ الدليلَ دَلَّ على صِحَّتِهِ:
المَوْضِعُ الأول: ما ذَكَرَهُ عند تفسيره لسورةِ يس حيثُ ذكَرَ الخلافَ في نُزولِها ثُمَّ قال:"
والذي يَظْهَرُ أنّها مَكِّيَّةٌ؛ لأنّ أُسْلُوبَها أُسْلُوبٌ مَكِّيٌّ " ... إلى أنْ قالَ:" وإذا جعَلْنَاها مَكِّيَّةً فإنّنا لا نَقُولُ باستثناءِ شيءٍ مِنها؛ لأنّ الأَصْلَ أنّ السُّوَرَ المكِّيَّةَ كُلُّها مَكِّيَّةٌ، وأنّ السُّوَرَ المدنيَّةَ كُلُّها مدنيَّةٌ، فمِن ادَّعى استثناءَ آيةٍ، أو آيتينِ، أو أكثرَ فَعَلَيْهِ الدليل
¥