تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أهل التأويل)

- من الأدلة التي تؤكد أن الزكاة هنا هي زكاة النفس لا المال أن قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى) كقوله عن النفس في سورة مكية أخرى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) والتزكي في الآيتين واقع على النفس لا المال، ولهذا قال قتادة: " تزكى " أي:بعمل صالح

- إذا كانت الزكاة هنا هي زكاة المال لا النفس، فليس هذا دليلاً على أن المقصود زكاة الفطر التي جاءت بالمدينة، وقد جاء في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت قوله: (قد أفلح من تزكى) للفطر؟ قال: هي في الصدقة كلها (ويبدو واضحا أن الزكاة – وإن لم تحدد بالشكل المعلوم – قد كانت معروفة بمكة قبل الهجرة؛ وليس ذلك فحسب بل قد وردت في سورة المزمل؛ وهي من أوائل السور نزولاً؛ وذلك في قوله: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، ولما كان الأمر كذلك فليس هنالك من مبرر لادعاء مدنية سبب تلك الآية التي يمكن أن يصرف فيها معنى التزكي بسهولة إلى تزكية النفس من ناحية، ثم إن ذكر الزكاة المتعلق بالمال لم يقتصر في السور المكية على المزمل فحسب من ناحية أخرى؛ بل وردت زكاة المال في آيات مكية كثيرة؛ وذلك نحو قوله: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) في سورة الأعراف، وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) في سورة المؤمنون وقوله: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) في سورة النمل وقوله: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) في سورة لقمان، وقوله: (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) في سورة فصلت، فلا يُتصوَّر أن تكون كل هذه الآيات آيات مدنية أو ذات أسباب مدنية وهي في سور مكية.

وأريد بهذه الأمثلة أن أقول أن تلك الأحاديث – رغم ما فيها – لا تدل على مدنية الآيات وإن صحت، وإنما تدل على أن الخطا إلى المساجد من الآثار التي تكتب وأن وحشي وإن - كان من الذي أسرفوا على أنفسهم - فينبغي أن لا يقنط من رحمة الله؛ فالآيات تنزل معانيها على هذه الحوادث وليس معنى ذلك أنها تنزل من السماء لأجلها مباشرة والفرق كبير.

أما الحديث الذي يروى فيه نزول آية الزمر بسبب وحشي فقد رواه البيهقي في شعب الإيمان والطبراني في المعجم الكبير، وحديث الطبراني ضعَّفه الذهبي وفيه أبْينُ بن سفيان كما ذكرت أخي د. أحمد البريدي، وقد قال البخاري عن أبين (لا يكتب حديثه) وقال ابن عدي (كل ما يرويه منكر) وقال ابن حبان (يجب تنكب أخباره). وحديث البيهقي فيه عبد الملك بن جريج وكان مشهورا بالتدليس مكثرا منه

ولكن حتى لو صح الحديث فرضا فإن قصة وحشي هي مجرد معنى تشمله الآية كما سبق، وقد أنزل معناها على هذه القصة التي هي إحدى الأمثلة التي يستدل بها على معنى الآية

ومعلوم أن آية يس وآية الزمر لا تختصان بأفراد معينين وإن صحت تلك الروايات فيها - وهي عندي غير صحيحة كما ذكرت - ومعلوم أن كثيرا من الحوادث التي تكثر أمثالها ولا تختص بشخص واحد تنزل في معناها الآية فيحدد الصحابي إحدى الحوادث التي يشتمل عليها معنى الآية فيقول "هذه الآية نزلت في كذا" ويقول صحابي آخر "نزلت في كذا" مما يشتمل عليه معنى الآية أيضا، يريدون بذلك أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة فكأنهم يريدون التمثيل.

وقد تقع ثلاث قصص مختلفة فتكون سبباً لنزول آية واحدة؛ حيث تكون هذه القصص - رغم اختلافها - مشتركة في معنى واحد وصفة متفقة هي التي نزل فيها القرآن؛ وذلك نحو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في سورة النور، وقد جاء في البخاري ومسلم أنها نزلت في هلال بن أمية وقد قذف امرأته بشريك بن سحماء وروى الشيخان أيضاً أن عويمر سأل عما إذا وجد رجلاً على امرأته وروى البزار عن أبي بكر الصديق أنه سأل مثل ذلك سؤالاً افتراضياً فهذه الأمثلة جميعا نزلت فيها تلك الآية حسب تعبير الصحابة

ومثال ذلك أيضا ما جاء في صحيح البخاري في باب قول الله تعالى (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال (من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ هو عليها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان). فأنزل الله تعالى (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا). الآية فجاء الأشعث فقال ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فيّ أنزلت هذه الآية كانت لي بئر في أرض ابن عم لي فقال لي (شهودك). قلت ما لي شهود قال (فيمينه). قلت يا رسول الله إذا يحلف فذكر النبي صلى الله عليه و سلم هذا الحديث فأنزل الله ذلك تصديقا له

وكلا الأمرين صحيح حسب مفهوم الصحابة لأسباب النزول

فآية يس نزلت لبيان أحوال الموتى المنذرين عند إحيائهم ومحاسبتهم على أعمالهم وآثارهم، ومن ذلك أعمال وآثار الكافرين الذين لا يؤثر فيهم الإنذار (وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) وأعمال وآثار المؤمنين الذين اختصوا بتأثير الإنذار (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) ومن آثار المؤمنين الخطا إلى المساجد كما في الحديث

فلماذا نقيد المعنى بحديث معين خاصة وأن هنالك حديثا فيه المعنى المطلق؟

فالأولى الجمع بين الحدثين بدلا من تقييد المعنى

أما آية الزمر فنزلت في مشركي أهل مكة وفي وحشي قاتل حمزة وفي عياش بن أبي ربيعة وفي هشام بن العاص، ولا إشكال عندي في الجمع بين هذه الحوادث ما دام الصحابة يستخدمون عبارة (نزلت في كذا) للتمثيل، أما اعتراضي فعلى تقييد الآيات بحوادث معينة لتخرج من سياقها ومعناها العام ولتكون آية مدنية في سورة مكية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير