وقد فهمت من كلامك السابق أن الاستثناء جائز عند يقول بصحة الحديثين، وأن لا أقول بذلك، ولكن حتى لو قلت بصحتهما فإنني حسب ما ذكرته في أصل البحث أقول بأن سبب النزول قد يأتي أحيانا عند الصحابة للتمثيل فحسب كما ذكر ابن تيمية وابن عاشور وغيرهما، ولكني دعني أنظر إلى الحديثين في ضوء تعليقاتي الآتية:
- قال الألباني في السلسلة الصحيحة - بعد أن ذكر من ضعفوا حديث ابن ماجة والترمذي بسبب طريف وسماك - (فالحديث بمجموع الطريقين صحيح، لا سيما وله شواهد أخرى مختصرة دون ذكر الآية) والشواهد التي لم تذكر فيها الآية نحو حديث البخاري وابن ماجه والبيهقي في «شعب الإيمان» وأحمد ومسلم وأبي عوانة وابن حبان
- ولكن الآية هي الموضع الذي نبحث فيه ها هنا، وما أظن الألباني قد صحح الروايتين إلا لوجود الشواهد الصحيحة لهما، وهذه الشواهد لا أثر فيها للآية إطلاقا
- وذكر الألباني قول الترمذي في الحديث: «حديث حسن غريب» ثم فسر الغرابة بما ذكره ابن كثير وهي أن السورة بكمالها مكية.
- الحديثان عندي ليسا صحيحين في نفسهما، بل صحيحان لغيرهما، ولكن هب أن الحديثين صحيحان تماما ولا إشكال فيهما ماذا يترتب على ذلك؟
وهل يمكنني أن أفسر الآثار في الآية الكريمة بـ (آثار الخطا) إلى المسجد فحسب دون غيرها؟
إذا فعلت ذلك خالفت الآتي:
- الأصل الذي جرت عليه السور
- السياق القرآني الذي هو أكبر الأدلة على المعنى.
- إطلاق المعنى الذي لا يمكن أن يقيد إلا بدليل واضح (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)
فالذي أفهمه من الحديث – إن صح – هو إنزال معنى الآية على تلك الحادثة لتشمل آثار الخطا إلى المساجد مع غيرها من الآثار، وآثار الخطا هي أسرع الآثار محوا، وهذا دليل على أن الله لا يغفل شيئا؛ ولذلك قال قتادة وعمر بن عبد العزيز (لو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدم ابن آدم)
وبذلك يبدو لي واضحا أن معنى الحديث يدخل في الآية لا أن معنى يدخل في الحديث وقد علق القرطبي علي ذلك بأنه احتجاج بالآية
وفرق كبير بين دخول معنى الحديث في الآية ودخول معنى الآية في الحديث فالأول يفيد أن ما ذكره الحديث يندرج تحت الآية ويعدّ معنى من معانيها والثاني يفيد تقييد معنى الآية بالحديث،ولهذا وجب التفريق في قول الصحابة (هذه الآية نزلت في كذا) كما ذكر ابن تيمية، لأن عدم التفريق يُدِخل في الإشكالات، وقد وقع مثل ذلك لبعض العلماء أيضا حيث لم يفرقوا بين كون الحديث مفصل لبعض جزئيات المعنى المجمل في الآية (أي مثال) وبين كونه مقيد للمعنى المطلق في الآية؛ ففي قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى) في سورة الأعلى المكية ذهب هولاء العلماء إلى أنها قد نزلت في زكاة الفطر ولم يكن في مكة من زكاة ولا عيد فقيدوا معنى الآية بالحديث
وسبب الربط بين هذه الآية وبين زكاة الفطر أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقدمون زكاتهم بين يدي صلاة العيد؛ إذ إن من السنة أن تخرج صدقة الفطر قبل الصلاة وكانوا يستدلون بهذه الآية، والملاحظ أنه ليس هنالك من آية تقدمت فيها الزكاة على الصلاة حتى يستدلوا بها في مثل هذا الموضع إلا هذه؛ فكانت تزكية النفس بإخراج زكاة الفطر مثالاً من أمثلة تزكية النفس؛ إذ هي تزكى بإخراج المال وغيره من الطاعات، ومثل ذلك عند الصحابة كثير أما قصر معنى الآية على زكاة الفطر ففيه نظر للآتي:
- وردت ثلاث آيات مكية أخرى وهي تحمل هذا اللفظ " تزكى" أي: تتطهر من دنس الكفر، ولم يقل أحد أنها بالمعنى الشرعي للزكاة التي هي دفع مال مخصوص؛ ومن ذلك قوله تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى) وقوله: (وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)، وجاء على لسان موسى لفرعون: (فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى) وسورة الأعلى التي فيها الآية المعنية سبقت في النزول السور المكية الأخرى التي فيها لفظ " تزكى" وهي: فاطر وطه والنازعات.ولهذا ذهب الطبري لهذا المعنى الذي هو التطهر من دنس الكفر؛ يقول في معنى هذه الآية: (قد نجح وأدرك طلبته من تطهَّر من الكفر ومعاصي الله، وعمل بما أمره الله به، فأدّى فرائضه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من
¥