تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي تفسير الطبري: (أن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - قرأ هذه الآية: ?تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ? (المؤمنون: 104)، قال: ألم تر إلى الرأس الْمُشَيَّطِ بالنار، وقد قَلُصَتْ شفتَاه وبدت أسنانُه!) (5) يقصد التمثيل التدبري للمعنى برأس الكبش الْمُشَيَّطِ، أي بعد تشويطه بالنار. تقول: شَوَّطَ وشَيَّطَ، سواء. وهذا تدبر عجيب؛ لما فيه من ربطٍ للآيات القرآنية بالمشاهَدَات اليومية في الحياة الدنيا - رغم عظم الفرق - ولكن الاتعاظ بالصغير الحقير أدعى إلى الاتعاظ بالكبير الخطير!

وفي ترجمة عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - في الإصابة لابن حجر، أنه: (كان – رضي الله عنه - إذا قرأ هذه الآية: ?أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ? .. الآية (الحديد: 16) يبكي حتى يغلبه البكاء .. !) (6)

وورد (أن أبا طلحة – رضي الله عنه - قرأ هذه الآية: ?انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً? .. الآية (التوبة: 41)، فقال: أرى ربي يستنفرنا شيوخَنا وشُبَّانَنَا! جهزوني أيْ بَنِيَّ! جهزوني! [يعني للجهاد! وكان يومها قد شاخ وكَبُرَ!] فقال بنوه: قد غزوتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ونحن نغزو عنك! [أي بعدما عجزت] فقال: جهزوني! فركب البحر، فمات. فلم يجدوا له جزيرة [لدفنه] إلا بعد سبعة أيام! فدفنوه فيها ولم يتغير!) (7)

وعند تفسير قوله تعالى: ?وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا? (الكهف: 49)، قال الإمام القرطبي: (وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه .. ! ضَجُّوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر!) (8)

وروى الإمام البيهقي في شعب الإيمان بسنده عن الواعظ الكبير مالك بن دينار أنه رحمه الله: (قرأ هذه الآية: ?وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ? .. الآية: (هود: 88). قال: «فَأُسَمَّى في القيامةِ مَالِكاً الصَّادِقَ، أو مَالِكاً الكاذبَ!») (9) وهو بذلك يُنَزِّلُ مضمون الآية على نفسه – حيث كان واعظاً – فجعل يحاسب نفسه بميزان القرآن، ويتدبر الآية بالنظر إلى نفسه، مشفقاً من حالها ومآلها، وما قد يكون من مصيرها! قصد تهذيبها، وكسر شوكة غرورها، وتصفية مقاصدها، وتجريد إخلاصها لربها! وهو من أجل ضروب التدبر والتفكر!

وفي الزهد لأحمد بن حنبل - وغيره - أن مالكا بن دينار أيضا قرأ هذه الآية: ?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ? .. الآية (الحشر: 21)) فبكى، وقال: «أقسم لكم! لا يؤمن عبدٌ بهذا القرآن إلا صدع قلبَه!») (10) الله أكبر .. ! ألا ما أجله من تدبر! وما أدقه من تفكر! لقد وضع مالك بن دينار – رحمه الله - قلبَه موضع الجبل! فكيف تراه يكون؟ أيكون أشد صلابةً من الجبل؟ كيف بقلب يتلقى القرآن حق التلقي، كيف به وهذا الجبل قد خشع له وتصدع!؟

ذلك هو التدبر .. وإن الأمثلة في مثل هذا لأكثر من أن تحصى!

وأنت تلاحظ أن هذه النصوص جميعا ليست من قبيل التفسير بمعناه الاصطلاحي الخاص، وإنما هي مجرد تعبير عن المشاعر الخاصة، والمواجيد الجياشة، الحاصلة في النفس عند تلاوة الآيات، وما يخالط القلب من الرَّغَبِ والرَّهَبِ، والخوف والرجاء، في طريق السير إلى الله! كما أن فيها تنزيلا للآيات على واقع النفس، أو واقع المجتمع، أو على أحوال الطبيعة حول الإنسان، ومشاهدةً لبروق الوعد والوعيد، من خلال تقلبات الليل والنهار. وفضحاً لغش النفس وضعفها؛ بتسليط كشافات القرآن عليها! كما أن فيها مشاهدةً للعزائم العالية التي طلبها الله عز وجل من العباد، وما ينتصب دونها من مشاق الطريق ومكارهها! ولذلك ترى المتدبرين للقرآن والمتفكرين في آياته الكونية، بين بَاكٍ مختنق بالأنين، أو مُطْرِقٍ مهموم حزين! ولا يخرج كلاهما من مجلسه أو خلوته إلا بعزيمة تهد الجبال! وإن الواحد من هذا الطراز البشري العظيم لهو بأمة!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير