هو (تِتُمْ تِتِتُمْ تِتُمْ تُمْ)، وهو مستقل بهذه النغمة ولكن عمليا ممكن أن يرد إلى الوافر بحذف تفعيلته الثانية أي الاقتصار على (مفاعلتن فعولن) لكل شطر، إلا أن الحقيقة المؤكدة هي أن العرب الجاهليين لم ينظموا عليه فهو جديد، وهذا هو الرد على إيهامات الخليل ومن تابعه في الفكرة وهو جاهل تمام الجهل بأنغام الشعر وأوزانه.
تهميش الرجز:
وسيم بحر الرجز نظرة دونية فجعله الأصمعي مانعا من الفحولة، ولم يكتبوا عليه قصيداً إلا ما ندر لان شعراء الجاهلية لم يعدوه أهلا للقريض فميزوا بينه وبين البحور الباقية القريضية، كما أن الفحول عدَّوه حمار الشعراء وأصبح يلبي حاجة الارتجال حسب. ويرى المعري،وهو من أعضاء المؤسسة المحافظة كما يبدو من آرائه، " أن الرجز لمن سفساف القريض" (50) ..
ولم تختلف نظرة الإسلام له؛ فالرسول (ص) تطبيقاً للآية القرآنية (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ) (51)، لم يكن ينشد بيتاً من الشعر تاما على وزنه، فان قال بيتا شعريا كاملا كسره ولم يتهدّ إلى إقامة وزنه (52)، ولكنه في يوم حنين ارتجز بوزن صحيح:
أنا النبي لا كذبْ أنا ابن عبد المطلبْ (53)
وذلك لان الرجز ليس شعراً؛ فلا تناقض مع الآية، وهذا وغيره يدل على أن الإسلام لم يتدخل بفنية الشعر. وفي العصر الأموي بقي بحر (الرجز) تكتب عليه الأراجيز، ولم يكن له شأن في كتابة قصائد قريضية عليه.
حتى جاء العصر العباسي؛ فاكتشفت قدرته النغمية الجيدة. إلا أن ممارسة سلطة الشعر الجاهلي كانت أقوى فساموه نظم التاريخ والعلوم والقصص فأصبح تعليميا. ولم يكتبوا عليه قريضاً في أول العصر فأبو تمام (232هـ) لم يكتب عليه قريضاً قط، وكتب البحتري (282هـ) ثلاثة أبيات في الهجاء، واكتفى المتنبي (354هـ) بقطعة واحدة في الفخر من ثلاثة أبيات أيضاً.
غير انه ظل يكتسب أهمية اكبر عند الأجيال التالية كلما أوغلنا في العصر فكتب عليه الأرجاني (544هـ) أكثر من قصيدة وقطعة جيدة، وكتب عليه بهاء الدين زهير (656هـ) (8) قصائد، و (20) قطعة قريضية. وفي هذه الحقبة ظهرت (القصيدة الدبدبية) (54) الساخرة الشهيرة على الرجز لتقي الدين ابن المغربي (684هـ)، ومنها:
أي دبدبهْ تدبدبي أنا علي بن المغربي
تأدبي ويحك في حق أمير الأدبِ
أنا الذي أسد الشرى في الحرب لا تحفل بي
أنا الذي كل الملو ك ليس تخشى غضبي
فمن رأى للهذيا ن موكبا كموكبي
أنا امرؤ أنكر ما يعرف أهل الأدبِ
ولي كلام نحوه لا مثل نحو العربِ
لكنه منفردٌ بلفظه المهذبِ
يصافع الفراء في الـ ـنحو بجلد ثعلبِ
ويقصد التثليث في نتف سبال قطربِ (55)
حتى إذا وصلنا العصر الحديث وجدناه يتحول إلى حصان أصيل، بعدما كان حمارا بليدا يركبه الشعراء الكسالى. فقد أصبح من البحور الأولى عند شعرائنا؛ فنسبة الرجز في دواوين السياب تتراوح بين 25 - 28% من مجموع شعره، ونسبته في دواوين البياتي تتراوح بين 60 - 76%. وكانت قصيدة (أنشودة المطر) التي اختيرت أفضل قصيدة عربية في القرن العشرين من الرجز.
محاربة الجديد:
كما فرض علم العروض سلطته على المزدوجة فمنعها أن تمنح شرف تسميتها قصيدة مهما طالت كمزدوجة أبي العتاهية ذات الأمثال التي بلغت أربعة آلاف مثل. كما لم تعد قصائد المخمسات والمسمطات.
وقاطع كثير من الشعراء الكبار الأوزان المستحدثة، بل إن احتقار المتنبي لها، جعله يهجو (ضبة) لوضاعته بقصيدة على بحر المجتث حشدها بألفاظ سوقية نابية يندى لها الجبين، بينما هجا مهجوِّيه الأنداد على بحور محترمة عروضياً.
وكثيرا ما حورب الشعراء إذا كتبوا على بحور جديدة خارج العروض، يتضح ذلك من قول أبي العتاهية الذي كان يرد عليهم بقولته الشهيرة "أنا اكبر من العروض" (56).
¥