وأما الإيعاز للجيل بالقراءة للجابري، وخلع بعض النعوت المضلّلة وإيهام الناس بسلامة منهجه واستقامة أمره لولا هنات يسيرة وهفوات معدودة، فهذا ما أربأ بالشيخ سلمان أن يفعله وهو المربّي القدير والمفكّر الحصيف، وأي تعظيم أو توقير لمباني الشريعة وكتبها سوف يبقى في نفوس الشباب وهم يقرؤون الجابري يشكك فيها وفي أئمتها الذين نقلوها وحفظوها؟ وماذا يبقى لنا من الدّين إن صارت موارده – وعلى رأسها كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - جفلى لكل باحث في المناهج وناقد للعقول يهدم ما يشاء منها ويشكّك في صحّتها بحجّة التمسك بمناهج البحث المعاصرة وقواعد النقد العلمي الحادثة؟
وبحثُ هذا له موضعه اللائق به.
وجملة القول أن هذه السبيل جادة مطروقة للكثير من الباحثين والمفكّرين فمنهم من آمن فيه بالحق ومنهم من صدَّ عنه.
فلم يكن الجابري إذاً وحيد عصره في هذا الميدان، ولا المجلّي فيه حتى يُشكر ويُمدح ويُلتمس له فيه العذرُ بحسن قصده وسلامة نيّته.
وأود أن أُشير هنا إلى أن ثمّة أموراً ثلاثة هي مجمعُ الدوافع لدى كثير ممن خاض في الكتابات النقديّة المعاصرة:
الأمر الأول: سؤال النهضة المشهور: لماذا تقدّموا وتقهقرنا؟
الأمر الثاني: الثنائية المشهورة "التراث" و"الحداثة" أو "الأصالة" و"المعاصرة" أو "الثبات" و"التطوّر"، ومدى قدرة التراث بارتداده إلى الماضي ومخزونه الهائل على استيعاب الكم المتتابع من التغيّرات العصريّة الطارئة الآخذة في الاتساع، وهل يُبنى على التراث؟ أم يطوّع ويطوّر؟ أم يُطوى؟
الأمر الثالث: نزعة المناهج البحثيّة المعاصرة والتفسيرات الماديّة التي طغت في القرون الأخيرة.
وانبثق عن هذه الأمور الثلاثة غالب المؤلفات النقديّة، والتي على رأسها مؤلفات الدكاترة: محمد بن عابد الجابري، وفهمي جدعان، وحسن حنفي، وفؤاد زكريّا، وحسن الترابي، ومحمد أركون، وآخرين.
وليت الشيخ سلمان أحال في مناقشة أفكار الجابري إلى طائفة هم من أعلم الناس به وبمنهجه، فقد أتوا على فكره وسبروا أغواره وتتبّعوه وحفروا فيه حتى صيّروه هباءً منثوراً، منهم الدكتور طه عبدالرحمن والدكتور عبدالرزاق قسّوم والنصراني الجلد جورج طرابيشي وغيرهم، كما أن الناس بحاجة ماسّة إلى معرفة الموقف الشرعي من فكر الجابري ولهذا سألوا عنه وأرادوا معرفة حاله، وليسوا بحاجة إلى معرفة سلامة نيّته وحُسن مقصده والثناء عليه بذلك، فإن سلامة النيّة وحُسن القصد حجّة لاجئ إليها الجميعُ، وما ذاك الذي يستل سيفهُ أو يتأبّط قنبلته فيعيث في ديار المسلمين فساداً وإفساداً باسم الجهاد والانتصار للدين إلا رجل يزعمُ أنه ذو مقصد حسنٍ، فما أغنى عنه مقصدهُ شيئاً ولا شفع له.
وغالب الانحرافات التي وقعت في أصول الشريعة ومبانيها العظام إنما حمل أصحابها عليها محاولة التكيّف مع المرحلة الراهنة وتطويع الشريعة أو تطويرُها لتتناسب مع التغيّرات الحاصلة، فانبعث الخوارج من مراقدهم لمّا أحسّوا أن أحكام الشريعة آخذة في الاضمحلال، ونشأت المرجئة مع اليأس من تغيير الواقع على إثر اندحار ابن الأشعث ومن معه من العلماء، وبمثله نشأ القول بالجبر، وخرجت المعتزلة حين همَّ بعضُهم بالتماس التقريب للشريعة من التفسير العقلي، وتشظّى الإسلام بمثل هذه المحاولات التقريبيّة والمسارات التصحيحيّة والمشاريع النقديّة كما يزعم أصحابُها، ولو بقيَ القول باعتبار مقاصد الناس والحكم من خلالها على مناهجهم ومدارسهم لما بقيت للشريعة أحكامها الثابتة النافذة، ولأضحى دين الله حمى مُباحاً لآراء الناس واجتهاداتهم، غير أن علماء الشريعة تفطّنوا لهذا من قديم، فكانوا يقفون سداً منيعاً للمناهج البديلة الناشئة غاضّي الطرف عن المقاصد والنوايا.
وما أرق حُكم الشيخ سلمان وألطفه وهو يقول: "القارئ للكتاب – أي التفسير - يحس بأن الجابري يتكلم عن قضية الألوهية وقضية النبوة بإيمان، إذًا هو رجل كان مخلصًا لأمته"
وكأن الإيمان المجرّد بالألوهيّة والنبوّة قنطرة العبور إلى الإخلاص والنجاة وصحّة المناهج! ومن الغريب أن تغدو هذه الجملة اليسيرة من مسائل الإيمان - التي هي من بدائه المعتقدات وكُبرى اليقينيات لدى العجائز في خدورهنَّ والأطفال في ملاعبهم والشيوخ في محاريبهم - من مفاخر المفكّرين الكبار ومن مآثرهم ومن العلامات على صدقهم وإخلاصهم ووفائهم لأمتهم!
وهذا الاستدلال من الشيخ يذكرني بقول الإمام ابن عطيّة في عبارة نُقلتْ عن عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما -: هذا من مُلح التفسير لا من متين العلم!
ومن عجيب ما علّق به الشيخ كذلك قوله عن تفسير الجابري: "وجدت أن هذا الكتاب مقلق، في بعض مواضع به، على الأقل أنه لم يوصل الرسالة بشكل جيد" وهذه التي سمّاها الشيخ "مواضع مقلقة" هي تلك المواضع التي تضمّنت أقوالاً غايةً في الشناعة كقوله في القرآن بأنه قد يكون ناقصاً – وهذا القولُ يعدُّ بإجماع المسلمين كفراً كما نقله غير واحدٍ من الأئمة - وقوله أن له رأياً في الفنَّ القصصي في القرآن قريباً من رأي محمد أحمد خلف الله، وهو الرأي الذي كفّره عليه – أي خلف الله – طوائف شتّى من علماء الإسلام في مختلف الأمصار والأقطار.
وقول حبيبنا الشيخ سلمان: "كان في تصاعد مستمرّ" ينبؤك عن حقيقة حال الجابري، فإذا كان الجابري في صعوده وارتفاعه ودنوّه من الإسلام قد أتى بهذه الطوام الكاشفة لحقيقة منهجه وانحراف فكره في القضايا الشرعيّة، فكيف بحاله قبل ذلك!
ختاماً: أرجو أن يتسع صدر الشيخ المُحب سلمان لهذه المناقشة، فما حملني عليها إلا المذاكرة العلميّة والمطارحة المعرفيّة، ولروحه العذبة منّي أرق التحايا، وإليه منّي السلامُ.
ماجد بن عبدالرحمن البلوشي
[email protected]
المصدر:
http://www.sabq.org/sabq/user/article?id=166
¥