تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[محمد خليل الزروق]ــــــــ[03 Aug 2010, 09:14 م]ـ

(1)

كان لا يبالي بالمال الكثير ينفقه في شراء الكتب، فلا يتوقف ولا يتردد في ثمن الكتاب ما دام الكتاب داخلاً في تخصصه، واقعًا في دائرة اعتنائه، معينًا له على إتقان عمله، وما دام هو واجدًا للمال، ولا يزاحم الكتابَ عليه حقُّ أوجب، وحاجة أمسُّ.

وكان لا يبالي بالجهد الكبير يبذله في البحث عن الكتب، والسفر إليها، وقضاء الساعات الطوال في المكتبات، والأيام العديدة في المعارض، وحمل المجلدات الثقال من مكان إلى مكان، يحمل بيديه، وعلى العربات، ويستأجر العمال ينقلون، ويكتري السيارات تُقِلّ، وما سافر إلى بلد إلا قصد مكتباته للاطلاع والاقتناء والنسخ، وأكثر ما يستخدم الصداقات والقرابات والمعارف في تحصيل مطبوع، أو تصوير مخطوط، أو معرفة خبر عن مؤلَّف. وعلى أنه أقام زمنًا على هذا، منذ وعى الحياة، وأمسكت يده النقود - يعُدّ نفسه في أول الطريق، ويرى ما حصله قليلاً في جنب ما يتطلع إليه.

كان لا يبالي بالمال أو الجهد أو الوقت في سبيل حيازة الكتب، وكل ما كان يباليه هو تجاوز الكتب الحدود، وتخطيها العقبات، وتجنبها قواطع الطرق، ووصولها إلى مكتبته سالمة، لم تصادر أو تُنتقص أو تُخترم.

وما السبيل إلى طلب العلم، ومعرفة الحقائق، وإتقان التخصص - إلا صحبة الكتب، ومطالعتها، وترديد النظر فيها، فالكتاب كان هو أول حافظ للعلوم، وما زال، ينقلها من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، وإن فني أصحابها، وصاروا ترابًا في الأرماس، وبه بنيت المدنية، وترقَّت العلوم، وحُفظت الآثار، ونُقلت الآداب، وعُرف التاريخ، وامتازت الأمم؟ فما شأن الذي يعرقل وصول الكتب إلى طلابها إلا أن يكون ساعيًا في أضداد وظائف الكتاب، صادًّا عن سبيله، قاطعًا لطريقه؟

(2)

جازت الحافلة الحدود المصرية ليلاً، بعد رحلة طويلة من القاهرة حتى السلوم، أدبر فيها النهار، وأقبل الليل، مرخيًا السدول، آذنًا بعمل أضواء الفتيل، كان ذلك في آخر شتاء سنة 1995، حين كانت الطرق البرية سبيل السفر، ولا طائرات يومئذ تنقل المسافرين، وكانت هذه أول مرة يرجع فيها بالكتب من سفر، كان ينظر في غرفته التي أقام فيها في القاهرة إلى حقيبتين تكادان تتمزقان مما فيهما، ينظر إليهما ويسأل: هل سأراهما في غرفتي في بنغازي؟ وكل من يحاول حملهما يلقيهما ناظرًا إليهما متذمرًا قائلاً: ما هذا؟ ماذا فيهما؟

حدثه بعض ركاب الحافلة أن جنود البوابة الأولى يصعدون إلى الحافلة لأمور منها مصادرة ما في الأيدي من صحف ومجلات، ونصح له أن يخفي الكتاب الذي في يده يطالعه بين حين وآخر، أو أن يلقيه. أخذته سنة من نوم فما شعر إلا بمن يوقظه بقوله:

- هل هذا الكتاب لك؟

- نعم.

- هل معك كتب أخرى؟

- نعم.

- (انزل وجيبها!)

فتح السائق خزانة الحقائب، وبعد تقليب وتفتيش عثر على حقيبتيه، وأنزلهما يجرجرهما من ثقلهما، ساعده أحد الجنود في الحمل لما أيقن أنه لا يمكنه حملهما وحده.

(وقفة قصيرة للضرورة: في الأعلام للزِّرِكْلي: " الْخِرْنِق بنت بدر بن هِفَّان بن مالك ... شاعرة من الشهيرات في الجاهلية، وهي أخت طَرَفة بن العبد لأمه ... لها ديوان شعر مطبوع صغير ". أقول: هو من نشر دار الكتب المصرية سنة 1969، ومن تحقيق الدكتور حسين نصار، وهو بفهارسه نحو 60 صفحة. ومعنى الخرنق: الأرنب الصغير)

أخذ الجندي يخرج الكتب من الحقيبتين، وينظر في كل كتاب برهة، يتفرَّس فيه شيئًا، ثم يضعه جانبًا، وكان يقف قريبًا منه يراقب عمله، وينظر من بُعد في عنوانات الكتب، ويمد يده إلى بعضها أحيانًا - رئيس المكتب، كأنه ضابط، وكانت كتبًا لغوية وأدبية وإسلامية، وليس فيها كتاب لذوي الأسماء المشهورة لدى الجهات الأمنية في تلك الأيام. فما زال الجندي يقلِّب الكتب حتى عثر على ديوان الخرنق المذكورة آنفًا، فرفعه إلى رئيس المكتب يقول له: (شوف هظا يا فندي!) فقلَّبه الأفندي بين يديه ثم لم يجد فيه ما يطلبه فألقاه على كوم الكتب الأخرى.

فلما عرف صاحبنا أنه وقع في ورطة يصعب الخروج منها، أخرج لهم ورقة تفيد أنه طالب في الدراسات العليا، نظر فيها رئيس المكتب قائلا:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير