- نعم، هذه تفيد أنك طالب، ولكن لا تفيد أن تأتي بهذه الكتب!
- قد قضيت كل الوقت في مصر، وبذلت كل المال الذي معي، في شراء هذه الكتب، فإذا أخذتها أكون قد رجعت من الرحلة بلا شيء!
طلبوا منه أن يرد الكتب إلى مكانها، وأخذوه معها في سيارة إلى مكتب آخر يبعد مئات من الأمتار عن الأول، كان يخطر بباله أنه معتقل، ثم تبين له أن المكتب الآخر للجمارك، وفهم أنهم يطلبون أن يترك الكتب عندهم، ويعود - إن أراد - لأخذها بعد استخراج موافقة لها. حاول إقناعهم أنها كتب عادية يستعين بها على الدراسة، وأنه لا وقت ولا قدرة له للعودة إليها من بنغازي إلى السلوم، وفي سبيل تأكيد ذلك أخرج من حقيبة أوراقه نسخًا ورقية لمخطوطات استنسخها من معهد المخطوطات ودار الكتب المصرية، لم يرَوْها، فقيل له: إن هذه ستبقى عندهم أيضًا! وكان فيما قالوه: إنه لو كان الأمر لهم لربما تركوا له الكتب، ولكنهم لا يستطيعون رد أمر صدر إليهم من جهة لا يُرَد أمرُها. كان يراقب هذا الجدل شاب من موظفي الجمارك، اقترب منه وقال:
- ألست فلانًا؟
- بلى.
- وما الأمر؟
- ما ترى!
- تعال معي.
وانطلق به إلى المكتب الأول، دخلا ووقفا عند الباب بعيدًا عن مجلس رئيس المكتب، وقال موظف الجمارك له: إن هذا قريبي، وأنا أضمنه، و (ما شوره شي) ... إلخ، فلم ينطق الجالس على المكتب بكلمة، ولكنه أشار بيده كمن يقول: اذهب، يقصد: قد قبلت شفاعتك فيه، وسمحت له أن يذهب بكتبه!
(3)
هبطت الطائرة في مطار بنغازي آتية من الإسكندرية، في أمسية يوم من أيام أواخر شتاء سنة 2010، كان يشعر بانقباض كلما اقترب من حرس الحدود في المطار لمكان الكتب التي تصحبه دائمًا، وقد عرف أن أسلم الطرق المتبعة أن تُجعل عنوانات الكتب في مَسْرَد (قائمة) وتُعرض على مكتب يُدْعى: إدارة المطبوعات - لا يدري أي جهة يتبع؟ - يوقعونها بعبارة: لا مانع، ويذيلونها بتوقيع، ويزينونها بختم. ولذلك ترك في الإسكندرية صناديق كتبه التي اشتراها من معرض الكتاب بالقاهرة حتى يحصل على الموافقة، وحمل معه بعض كتب الأطفال ورسائل صغيرة ونسخًا من بعض مؤلفاته. مرت الحقائب على الجهاز الكاشف، صاح أحدهم سائلاً:
- هذه الحقيبة فيها كتب؟
- نعم.
- افتحها.
فتح الحقيبة، وأخذ موظفان يفتشانها، أحدهما يلبس لباس شرطة الجمارك، والآخر بلباس مدني، يخرجان الجوارب، ولباس النوم، وهدايا الحلوى، وأدوات النظافة، وأقراص أناشيد طيور الجنة، وكتب الأطفال: زياد يجوب البلاد، قصة الكرة العجيبة، كيف تعيش الحيوانات؟ أمسك أحدهما كتابًا ونظر في ظهره ودقق النظر ليقرأ العنوان، وكثير من الكتب تُكتب عنواناتها في الظهر بخط صغير، فقال له صاحبنا: اقلب الكتاب، العنوان في الجهة الأخرى!!
- (مع ليش، لازم نشوفوا، فيه ناس انحبست في سبّا الكتب!!).
- أغلب هذه الكتب كتب أطفال، حملتها معي قصدَ أن أُفْرِحهم بها، أو كتب أنا مؤلفها.
- (حكايتك ساهلة، تخليهن هنا، وتجي بكرة، يشوفوهن، كان ما فيهن شي تاخذهن، إن شاء الله!!).
قال ذلك وذهب، كلمه موظف الجمارك: (مع ليش ها المرة يا فندي، خليه ياخذهن!)، وكأنه أشار إليه بالموافقة، وكان صاحبنا منشغلاً بإعادة الحقيبة إلى سيرتها الأولى، وهيهات! وأقبل عليه موظف الجمارك يقول: (عمرك ما اتنرفز مع ضابط الأمن!!).
لملم الأشياء، وخرج وقد عُكر صفو خاطره، وأُفسدت عليه فرحة الإياب، وأحاطت به أسئلة وخواطر!
(4)
ما الذي يجعل بعض الناس يخاف الكتب، والكتب لا تحمل إلا العلوم والأفكار والآراء، صحيحها وسقيمها، وحقها وباطلها، وما من كتاب بشري إلا وفيه الصواب والخطأ، وما يُقبَل وما يرد، وما يؤخذ وما يترك، ومطالعة امرئ لكتاب لا تقتضي أن يأخذ بما فيه، أو أن يعتقد ما يحويه، والآراء تُقابَل بالحجج، والأفكار تُقاوَم بمثلها؟ وهي إن لم تنتقل في كتاب انتقلت في مذياع أو تلفاز أو هاتف أو حاسوب أو قرص، ويمكن المرء اليوم حمل آلاف الكتب في شيء أقصر من قلم، وأخف من بطاقة، وأضأل من محفظة، وكل الكتب والآراء والأفكار والصور والأصوات على الشبكة العجيبة المسماة: الإنترنت، التي هي في متناول الأطفال، فما معنى التضييق على الكتاب وهو أثقل وسائل حمل الكلمات، وأكثرها كُلفة، وأشدها مُؤنة؟
وما معنى أن تُحجز الكتب ثم تجاز بحسب هوى الحارس الذي يقف في الحدود؟
وما الفرق بين الموظف الذي ستعرض عليه الكتب وهذا الموظف؟ ما الخبرة التي حصَّلها ذاك وليست لهذا؟
وما القواعد التي عليها يبنى المنع والإجازة؟ ولو كانت هناك قواعد وجيهة، وعنوانات محظورة، وأسماء ممنوعة، فلماذا لا تنشر على الناس حتى يسيروا على تلك القواعد في اقتناء الكتب، ويتجنبوا المحظور والممنوع؟
وقد حدث في سنة من عقد التسعين أن جُمعت كتب الشيخ القرضاوي من المكتبات، واليوم توزعها الدولة على المساجد!!
ولو أنك حملت بعض الكتب التي تستعملها في بحث، أو تقرؤها في الطريق، وجاوزت بها الحدود، فكيف تقنع حرس الحدود عند العودة أنها مما خرجت به لا مما رجعت به؟
وإذا كان حامل الكتاب هو مؤلفه فما معنى أن تُطلب موافقة للكتاب ومؤلفه يدخل بلحمه ودمه ودماغه لا تطلب له موافقة؟ أليس من اتساق المنطق أن يُعرض المؤلف على ذلك الموظف ليرى ما في دماغه مما يمكن الموافقة عليه أو منعه؟!
20/ 2/2010
هذه إجابة لدعوتك أخي فهد، وهي مقالة نشرت في بعض المواقع الليبية، ولعل لي عودة إلى هذا الباب، فقد شوقتنا للحديث، وعذرا لألفاظ اللهجة الليبية، فقد كتبت لمن يفهمونها، وسأفسر ما يفتقر إلى تفسير، إن لم تفهم.
¥