تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإن هذا المذهب قد قال به بعضُ العلماء رحمهم الله، ولكن هل كلُّ قولٍ قيل به يكون صواباً؟ الجواب: لا، فإن الحق لا يمكن أن يتعدد، كما أنه لا يجوز للعامي أن يجعل أيَّ قولٍ قيل به ذريعةً إلى الترخص، فإنه مما ابتلينا به في هذه الأزمنة أن بعض الناس يتصيد مثل هذه الأقوال، فإذا عثر على ما يوافق هواه من الأقوال الغريبة أو الشاذة فكأنه وقع على كنز، يطيرُ به فرحاً وينشره قدر استطاعته في وسائل الإعلام ظاناً أن هذا من العلم الذي يجب تبليغه، متهماً أهل العلم بتعمد إخفاءه والظن به على الناس ..

ومن المعلوم أن كثيراً من مسائل الفقه لا تخلو من خلافٍ بين الفقهاء، والعبرة في العمل بالحكم الشرعي ما وافق الدليل، ومثلُ هذا لا يمكن للعامي أن يعرفه وإنما يلزمه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه، سؤال إبراء للذمة لا سؤال هوىً وشهوة

?فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?.

ومسألة الرَّضاع شأنها شأن غيرها من المسائل التي وقع فيها الخلاف، ليس في رضاع الكبير فحسب، فإن من العلماء من ذهب إلى أنه يكفي في التحريم رضعةٌ واحدة، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالكٍ ورواية عن أحمد، والصواب الذي عليه الجمهور أنه لا يُحرِّمُ أقل من خمس رضعات، وحديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يُحرِّمن، ثم نُسخن بخمسٍ معلومات) صريحٌ في هذا الحكم ومقيِّدٌ لمطلق النصوص.

وكثيراً ما يكون سببُ مثل هذا الخلاف خفاء النص على من قال بخلافه، أو تأويله تأويلاً يؤجرُ عليه وإن كان مخطئاً باعتباره أهلاً للاجتهاد.

فرضاع الكبير ورد لمناسبةٍ خاصةٍ لها ظروفُها ولم يأتِ ابتداءً، وإذا تظافرت النصوصُ في بيان مسألةٍ من المسائل، ثم ورد عليها نصٌّ لم يرد ابتداءً وإنما ورد بعد سؤالٍ فجاء الحكمُ على خلاف الأصل؛ كان هذا مستنداً قوياً لتضييق هذا الحكم وحصره بأحد أمرين: إما خصوصية العين أو خصوصية الوصف، وليس من منهج أهل العلم ترك الأصل لحكمٍ طاريءٍ مطلقاً، بل الواجب الاستمساك بالأصل حتى يرد عليه ما يعلوه أو يساويه من النصوص دون ما هو أدنى منه.

فإذا سلمنا بعدم خصوصية العين وأن الأصل تساوي الأمة في الأحكام؛ وأخذنا بخصوصية الوصف فحينئذٍ لابد من بيان القدر الذي يمكن أن تُضبط به مثلُ هذه المسألة.

والمُلجئ لهذا الضبط هو أن إطلاق المصطلحات للناس (كمصطلح الحاجة والضرورة) يسبب الفوضى في تنزيل الأحكام على الأعيان، إذ إن تحديد مقدار الحاجة أو الضرورة مما تتفاوت فيها الأفهامُ تفاوتاً كبيراً، وهي مما تختلفُ زماناً ومكاناً، فكما أن عوام الناس بحاجةٍ إلى بيان الأحكام الشرعية بياناً يزيل اللبس ويرفع الجهل؛ فهم بحاجةٍ إلى ضبط هذه المصطلحات الواردة على خلاف الأصل، وكما أن الله تبارك وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج؛ فكذلك يلزم العالم ألا يجعل على المستفتي حرجاً في سؤاله، من ناحية إقحامه في مصطلحاتٍ لا يستطيع ضبطها ضبطاً يتوافق مع النصوص، أو يكون قريباً منها قرباً ينفي عنه الوقوع في الحرج والإثم، لاسيما وأن الناس قد فتحوا على أنفسهم أبواباً من الرخص التي يبعد أن تكون مرادة من الشارع الحكيم، والتي كان من أسبابها إقحامهم بمصطلحاتٍ تعجز أذهانُهم عن معرفة كيفية تنزيلها على الواقعة.

فعلى من أفتى بمثل هذه الفتيا وقرنها بالحاجة أن يبين ذلك بأمثلةٍ توضح هذه الحاجة، إذ لا يخلو بيتٌ من أبيات المسلمين إلا وله حاجةٌ لمثل هذا الحكم، فيكون إطلاقُ مصطلح الحاجة - والحالةُ هذه - لاغياً لا قيمة له ولا طائل تحته، فإذا كان هذا في وقتنا الذي تتوفر فيه كافة الإمكانات وتتيسر فيه كثيرٌ من الأمور؛ فكيف الحالُ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم الذي هم أحوج منا إلى مثل هذا الحكم، فإنهم كانوا يسافرون للغزو والحج والعمرة، فيحتاجون إلى من يخلفهم في أهلهم ويقوم بشؤونهم ويحفظهم من ورائهم، وفيهم كذلك الضعيف الذي يحتاج إلى من يَدخل عليه ويَخدمه ممن ليس بينه وبين امرأته محرميةٌ تخوِّل له الدخول عليها، وكانت النساءُ بحاجةٍ إلى من يصحبهن في السفر إما للمناسك أو للهجرة أو لغير ذلك، ومع ذلك لم نجدهم توسعوا في ذلك، وهذا من أبين الأدلة على أن هذا الحكم محصورٌ بخصوصية العين أو الوصف المنضبط.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير