وإذا كانت هذه الصورة من إنكار النظام الإسلامي صورة فجة ومستقبحة، فإن هناك صورة أخرى لإنكار النظام الإسلامي ولكن بطريقة أكثر ذكاءً وأشد خبثاً من الطريقة الأولى، وهذه الطريقة تعتمد على الهجوم على مصادر التشريع في الإسلام، وإخراجها عن أن تكون مصدراً للأحكام السياسية، وتوضيح ذلك فيما يلي:
تقوم هذه الوسيلة على التسليم بأن الإسلام له نظام سياسي، وأن الإسلام دين ودولة، وهذا أمر لا غبار عليه، ثم ينطلقون من هذا إلى القول بأن مصادر الأحكام السياسية (الدستورية) إنما هي الكتاب والسنة فقط، ويرفضون بقية أدلة الأحكام الأخرى. حتى الإجماع عندهم مرفوض في مجال الأحكام السياسية ولو كان إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
ثم يخطون خطوة ثانية في مجال تفريغ اعترافهم السابق -بأن الإسلام له نظام سياسي- من مضمونه فيقولون: إن ذكر القرآن الكريم للأحكام السياسية: إنما كان على سبيل القواعد العامة لا الأحكام التفصيلية؛ ومعنى ذلك أنه ليس هناك أحكام محددة يجب التقيد بها في مجال النظام السياسي، وإنما هناك قواعد عامة فقط هي التي يجب التقيد بها، وما يترتب على ذلك من إدخال نظم أو طرق غربية إلى النظام الإسلامي بدعوى أنها لا تتعارض مع القواعد العامة.
ثم يخطون خطوة ثالثة لإفراغ المصدر الثاني عندهم وهو السنة من أن يكون مصدراً للأحكام السياسية (الدستورية) فيقولون: إن الأحكام التي جاءت بها السنة منها ما هو تشريع دائم، ومنها ما هو تشريع وقتي مرتبط بزمن النبوة، ويقولون -وهم في ذلك كاذبون- إن السنة المتعلقة بالأحكام السياسية (الدستورية) كقاعدة عامة هي من ذلك النوع الثاني الذي يُعد تشريعاً وقتياً أو زمنياً، ثم لا يكتفون بهذا القدر حتى يضيفوا إليه قولهم: ولا يوجد أحياناً حد فاصل دقيق بين ما يعد من السنة تشريعاً دائماً، وما لا يعد كذلك، وبهذا الطريق يكون هؤلاء قد أفرغوا الكتاب والسنة من أي مضمون يتعلق بالاحتجاج بنصوصهما في مجال مسائل الفقه السياسي (الدستوري).
وهذا في الحقيقة يعد -من وجهة نظري- نفياً لما قرروه من قبل من أن الإسلام له نظام سياسي، لأنه إذا كانت نصوص القرآن المصدر الأول للأحكام ليس فيها - من وجهة نظرهم- أحكام تفصيلية محددة فيما يتعلق بالأحكام السياسية، وإذا كانت السنة المصدر الثاني للأحكام، ليس في أحكامها التفصيلية أحكام مُلزمة لنا في التقيد بها في النظام السياسي، فماذا يعني قولهم إذن أو إقرارهم بوجود نظام سياسي إسلامي؟!
هل يكون هذا إلا مجرد لغو من القول لا حقيقة له ولا حاصل، وفي تقديري إن هذا المسلك أشد ضرراً وأكثر تلبيساً على الناس من المسلك الذي ينكر صراحة وجود نظام سياسي إسلامي؛ لأن الناس لا يتفطنون لضلاله، وهو في نفس الوقت ينكر وجود نظام سياسي إسلامي ولكن من طريق خفي يخفى على الكثيرين، وذلك في إطار إخراجه لنصوص الكتاب والسنة عن أن تكون أدلة في الأحكام المتعلقة بالفقه السياسي.
وإذا كان هؤلاء قد أفرغوا مصادر التشريع الإسلامي من أن تكون مصادر للأحكام السياسية (الدستورية) فماذا تكون مصادر الأحكام الدستورية الإسلامية عندهم؟!
إنهم يقولون: ينبغي أن تكون مصادر القانون الدستوري في العصر الحديث ما يلي:
أ-التشريعات الصادرة من أولي الأمر في مختلف الأقطار في نطاق مبادئ الشريعة الإسلامية، وذلك في حالة عدم إمكان حدوث إجماع.
وحكاية نطاق مبادئ الشريعة هذه حكاية مطاطة وثوب يستطيع أن يغطي جميع الأحجام، فيستطيع كل ولي أمر أن يشرع ما يهوى من الأمور المناقضة للشرع ثم يقول: إنها في نطاق مبادئ الشريعة، طالما أنه ليست هناك نصوص واضحة محددة يمكن الرجوع إليها.
ب-العرف الدستوري، وهو عبارة عن عادة درجت عليها هيئة حكومية (أي رئيس دولة أو برلمان أو وزارة) في الشئون المتصلة بنظام الحكم ولاقت قبولاً لدى الهيئات الحكومية ذات الشأن، أو على الأقل لم تلق معارضة.
فانظر إلى ما جعله هؤلاء من مصادر للأحكام السياسية في الدولة الإسلامية -بعد تركهم للوحي المعصوم المتمثل في نصوص الكتاب والسنة- وانظر كيف تكون حربهم للنظام الإسلامي!
¥